رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أوروبا تحاول كسب الوقت للتصدى للموجة الثانية
تكتيك «كسر الدائرة» لمواجهة كورونا

رسالة لندن منال لطفي

لم يقل أحد إن جائحة كورونا ستكون تحديا دراماتيكيا من فصل واحد، فكل العلماء توقعوا حدوث موجة ثانية فى الشتاء. لكن لم تتوقع الغالبية أن تحدث الموجة الثانية بعد أسابيع قليلة فقط من انتهاء الموجة الأولي. فالفيروس عاد للانتشار فى أوروبا بمعدلات تشبه معدلات مايو الماضي.

ولا عجب أن يشعر المسئولون فى أوروبا بضغوط غير مسبوقة، فالموجة الثانية من عدوى كورونا تختلف عن الأولى فى عدة نواح، أولا : أنها تأتى والاقتصاد الأوروبى مازال يعانى بالفعل آثار الموجة الأولى للفيروس. فعشرات الآلاف من المصانع تعمل بربع طاقتها، ومئات الآلاف من المحال والمقاهى والمطاعم أغلقت، ومئات الآلاف من المواطنين فقدوا أعمالهم، وشركات كبرى فى صناعة السفر والطيران والفندقة تبيع أصولها لتغطية خسائرها، أما الحكومات فقد تراكمت عليها ديون بالتريليونات.

ومع ذلك، فإن هذا ليس التحدى الأصعب فى الموجة الثانية المرتقبة من كورونا، بل تضارب النصائح العلمية. فالحكومات الأوروبية حائرة.. ماذا تفعل: إغلاق كلى شامل عاجلا وليس أجلا؟ أم إغلاق جزئى -مناطقى فقط؟ أم عدم الإغلاق على الإطلاق خلال شهرى سبتمبر وأكتوبر كى تنال نسب واسعة من السكان مناعة خلال أشهر الشتاء القارس فى نوفمبر وديسمبر ويناير؟

والمجتمع العلمى البريطاني، على غرار العلماء الأوروبيين، منقسم بشدة إزاء النصائح المقدمة للحكومات.

فالعالم البريطانى نيل فيرجسون، العضو السابق فى الهيئة العلمية (سيج) التى تقدم نصائح للحكومة للتصدى لكورونا، نصح حكومة بوريس جونسون بـ « الإغلاق العام والشامل عاجلا بدلا من أجلا» على أساس أنه كلما تأخرت الحكومة فى اتخاذ قرارات تقييدية جديدة تسارعت وتيرة العدوى وبالتالى صعوبة السيطرة على الفيروس.

على النقيض من ذلك، حذر البروفيسور كارل هينيجن، أستاذ الأوبئة البارز فى جامعة أكسفورد من الإغلاق الآن، قائلا إن على السلطات حول العالم تأجيل الإغلاق المحتمل للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية عدة أسابيع لكى يكتسب السكان مناعة من الفيروس، معتبرا الإغلاق العام خلال الخريف (سبتمبر وأكتوبر) انتكاسة صحية واقتصادية. فكثير من الدول الأوروبية ستضطر لإعلان خطوات إغلاق أوسع عندما تدخل أشهر الشتاء القارس (نوفمبر-ديسمبر-يناير) بسبب ارتفاع نسب الإصابات بالبرد والأنفلونزا الموسمية والأمراض الصدرية والتنفسية عموما ما بين 4 و 8 أضعاف. ولتشابه أعراض تلك الأمراض مع كورونا، والمخاوف من خروج العدوى عن السيطرة ستضطر الحكومات الأوروبية للإغلاق العام الشامل، أو اتخاذ إجراءات تقييدية مشددة خلال الشتاء. وبالتالي، كما يرى البروفيسور كارل هينجين، فإنه من الأفضل عدم المبالغة فى رد الفعل الآن، فالعدوى وإن كانت ترتفع بشكل ثابت، إلا أن نسبة الوفيات ونسبة من يحتاجون للعلاج فى المستشفيات ما زالت قليلة.

وبين النهجين المتضاربين لفيرجسون وهينجين، اختار كريس ويتي، المستشار الطبى للحكومة البريطانية، و باتريك فالانس، المستشار العلمي، أن يمسكا بالعصا من المنتصف عندما وضعا قيودا جديدة يوم الثلاثاء لمنع انتشار الفيروس بدون أن يصلا لمستوى الإغلاق الصارم الذى شهدته بريطانيا فى مارس الماضي.

لكنهما فى نفس الوقت لم يدعا مجالا للشك بإعلانهما أن «إجراءات أشد صرامة قد لا يكون هناك مناص منها» إذا لم يلتزم الناس بالإجراءات الجديدة ومن بينها إغلاق جميع المقاهى والمطاعم والأندية الليلية الساعة العاشرة مساء، ومنع تجمع أكثر من 6 أشخاص فى مكان واحد، والعمل من المنزل كلما كان ذلك ممكنا، وارتداء الكمامات طوال الوقت وفى كل الأماكن، حتى خلال السير فى الشارع، والاستثناء الوحيد لرفع الكمامات هو خلال تناول الطعام فى المطاعم.

ولا عجب أن يجتاح أوروبا القنوط والغضب وهى على بعد خطوات من إغلاق شامل جديد محتمل. ففى لندن ومدريد وباريس وأثينا ووارسو وغيرها من المدن الأوروبية، خرجت مظاهرات ضد الإجراءات التقييدية الجديدة التى أعلنت خلال الأيام الماضية فى أوروبا.

فالسيناريوهات المتوقعة للأشهر الستة المقبلة عجاف، وتتراوح بين «الإغلاق المتقطع» أو إغلاق «كسر الدائرة»، وبين الإغلاق الكامل على المستوى الوطني. وما سيحدد أرجحية أى سيناريو هو حجم وسرعة تفشى الفيروس من جديد، وضراوته، وما إذا كان هناك «مناعة قطيع» تقلل من خطورته.

ورغم لغته المتفائلة عادة، لم يستطع بوريس جونسون ولا وزراء حكومته، إخفاء تحديات الأشهر المقبلة. فالحكومة تعتقد أن البلاد ستضطر لعمليات متقطعة من الإغلاق حتى مارس المقبل على الأقل، وهذا له تكلفة اقتصادية كبيرة، فبورصة لندن خسرت 51 مليار جنيه إسترلينى يوم الاثنين الماضى مع تأكيد أن بريطانيا مقبلة على إجراءات إغلاق أكثر شدة.  

كسر الدائرة

لكن واقع الحال أن أوروبا بما فيها بريطانيا ما زالت بعيدة عن الأرقام المرعبة للإصابات والوفيات  التى سُجلت فى أبريل ومايو الماضيين.

ويقول العلماء إنه لمنع تكرار نفس سيناريو الموجة الأولى من كورونا على الدول المختلفة حول العالم محاولة «تطويق» الفيروس مبكرا.

 وأحد الأفكار التى طبقت فى عدة دول بالفعل، وقد تلجأ إليها بريطانيا،هو تكتيك «كسر الدائرة»، أى إغلاق مكثف لمدة أسبوعين ثم الفتح مجددا بحيث يتم تطويق الفيروس والحد من انتشاره. وتم استخدام هذا التكتيك فى بلدان مثل أستراليا ونيوزيلندا وسنغافورة، حيث أدت فترات الإغلاق القصيرة والشاملة فى نفس الوقت إلى تمكين السلطات من إعداد نظام اختبارات كورونا، وتجهيز المستشفيات، وتقليل معدلات العدوي.

ففى سنغافورة مثلا، بدأت أرقام العدوى ترتفع فى نهاية أبريل الماضى مع عودة آلاف السنغافوريين من الخارج، فقررت السلطات إغلاقا عاما لمدة أسبوعين ومنع المواطنين من مغادرة منازلهم لكبح تفشى الفيروس وإعادة فرض ارتداء الكمامات فورا فى أى مكان خارج المنزل حتى فى الشوارع، مع تطبيق غرامات فورية. وتم إغلاق جميع أماكن العمل غير الأساسية مع بقاء أماكن العمل الأساسية مفتوحة على أن يرتدى الجميع الكمامات. وأصبحت كل الفصول الدراسية «أونلاين». وأغلقت جميع المطاعم، باستثناء تلك التى تقدم الوجبات السريعة والتوصيل للمنازل.

وبعد تنفيذ إستراتيجية «كسر الدائرة» فى أبريل، أعيد تطبيقها فى مايو مع اكتشاف حالات عدوى أكبر من المتوقع. وتم تشديد الإجراءات لتشمل إغلاق جميع الخدمات التى لا توجد بها مسافة متر على الأقل مثل صالونات تصفيف الشعر، بالإضافة إلى تقييد الدخول إلى أسواق الحيوانات والطيور الرطبة.

ثم تم تخفيف بعض القيود تدريجيا وعلى مراحل للتحضير لإنهاء تكتيك «كسر الدائرة». وتم الإعلان عن مراحل لإعادة الفتح، وتشمل المرحلة الأولى «إعادة الفتح الآمن» للأنشطة الاقتصادية. والمرحلة الثانية تتعلق بـ «الانتقال الآمن» للممارسات الاجتماعية.  

وفى بريطانيا، يعتقد السير باتريك فالانس والسير كريس ويتي، أن هذا التكتيك ، أى فرض قيود صارمة لمدة أسبوعين كلما ارتفعت أرقام العدوي، ربما يكون هو النهج الجديد بدلا من الإغلاق الوطنى الشامل. ولتخفيف الآثار الاجتماعية والاقتصادية للإغلاق لمدة أسبوعين، يرى فالانس وويتى أن يتزامن ذلك مع عطلة الفصل الدراسى الأول فى أواخر أكتوبر، وعطلة أعياد الميلاد فى ديسمبر.

وتضع نيكولا ستورجين، رئيسة وزراء اسكتلندا أيضا «كسر الدائرة» ضمن خيارات الحكومة الأسكتلندية إذا واصلت نسب العدوى فى الارتفاع. وعلى غرار انجلترا، تفضل ستورجين تطبيق الإغلاق الصارم لمدة أسبوعين خلال عطلة المدارس وعيد الميلاد حتى لا يتضرر الاقتصاد أكثر مما هو عليه بالفعل.

كسب الوقت

وعن طريق الإغلاق المتكرر وقصير المدي، تستطيع السلطات فى بريطانيا كسب بعض الوقت لحين تحسين نظام «الاختبار والتتبع والعزل» الذى أصبح تحت الضغط الشديد منذ عودة المدارس والجامعات، أو لحين تطوير مصل.  

وبينما يضع فالانس وويتى تكتيك «كسر الدائرة» ضمن خيارات الأسابيع القليلة المقبلة، يدعو بعض العلماء البريطانيين البارزين إلى تطبيق ذلك التكتيك فورا لأنه كلما تأخر التطبيق، انتشر الفيروس، وبالتالى صعبت مهمة تطويقه مما سيضطر السلطات إلى فرض إغلاق عام شامل من جديد. ومن بين هؤلاء البروفيسور نيل فيرجسون، الذى ساعد فى وضع إستراتيجية الإغلاق فى بريطانيا فى مارس الماضي، والذى قال إن الإجراءات المحدودة التى أعلنتها الحكومة هذا الأسبوع لن تقلل كثيرا من سرعة انتشار الفيروس، داعيا إلى قيود أشد وإغلاق أكثر صرامة الآن وعدم الانتظار حتى أكتوبر أو نوفمبر، محذرا من أن البلاد «تواجه عاصفة من الموجة الثانية».  

طبعا هناك جدل بين العلماء حول التعريف الدقيق لـ «الموجة الثانية»، لكن بغض النظر عن ذلك فإن جميع البيانات تشير إلى تزايد أعداد الإصابات.

ويقول مستشارو الحكومة البريطانية إن العدد يتضاعف الآن كل أسبوع. وإذا استمر الارتفاع بهذا المنوال، فستتحول إصابة 6 آلاف شخص فى اليوم إلى نحو 50 ألف إصابة يوميا بحلول منتصف اكتوبر.

طبعا مضاعفة الأرقام كل أسبوع ليست بالأمر الحتمي، فهناك إجراءات يمكن أن تبطئ انتشار الفيروس مثل الالتزام بالحجر الصحى فى حالة الإصابة، وعدم تجمع أكثر من 6 أشخاص، وارتداء الكمامات، والحفاظ على مسافة المترين.

أين نحن الآن

بريطانيا، وأوروبا كلها إجمالا، عالقة فى مكان صعب. فالإغلاق بهدف وقف تفشى كورونا، يعنى ضربة جديدة لاقتصاد لم يتعاف. وبعد إغلاق المدارس والجامعات أغلب العام الدراسى الماضي، تبحث الحكومة إمكانية الإبقاء على المدارس والجامعات وأماكن العمل مفتوحة بأى ثمن. والتضحية فى المقابل بإغلاق المطاعم والأندية الليلية والمقاهي.

وفى بريطانيا، قد يمنح تطبيق تكتيك «كسر الدائرة» الدولة الوقت الكافى لتحسين برنامج الاختبار والتتبع الذى يعانى مشاكل جوهرية، لكن المشكلة هى أنه بمجرد انتهاء فترات الإغلاق القصيرة، ستبدأ الحالات فى الارتفاع مرة أخري. وبدون لقاح أو مناعة القطيع، سيكون ذلك التكتيك بمثابة «فترات استراحة» فقط وليس حلا بحد ذاته.

وإجمالا، ارتفعت الإصابات بشكل مطرد فى معظم أنحاء أوروبا خلال الشهرين الماضيين، حيث شهد أكثر من نصف الدول الأوروبية زيادة بنسبة 10% فى الأسبوعين الماضيين. ومع انتشار العدوي فرضت إسبانيا واليونان والدنمارك وفرنسا وبريطانيا مزيدا من الإجراءات فى بؤر انتشار الفيروس.

ففى مدريد أعلنت السلطات أن السكان سيحتاجون إلى سبب لمغادرة أحيائهم ، وسيتم إغلاق المنتزهات وسيتعين على المتاجر والمطاعم العمل بنصف طاقتها. واستمرت الحالات فى الارتفاع فى مدريد على الرغم من القيود وقصر التفاعلات الجماعية على 10 أشخاص كحد أقصي. ولدى إسبانيا أكبر عدد من الإصابات بفيروس كورونا ومعدل الإصابات فى مدريد وحدها أكثر من ضعف المعدل الكلي.

وفى فرنسا، فرضت المزيد من القيود فى مدينة نيس الجنوبية. وتم حظر التجمعات التى تضم أكثر من 10 أشخاص فى الأماكن العامة وتم تقييد ساعات عمل الأندية الليلية. أما اليونان فتفرض قيودًا أكثر صرامة فى منطقة أثينا الكبري. ومن 21 سبتمبر وحتى 4 أكتوبر، سيتم حظر التجمعات لأكثر من تسعة أشخاص فى العاصمة ، باستثناء المطاعم والأندية الليلية والمقاهي.

وخفضت الدنمارك الحد الأقصى للتجمعات العامة من 100شخص إلى 50 شخصا وأمرت المطاعم بالإغلاق مبكراً. كما أمرت أيسلندا بإغلاق أماكن الترفيه والنوادى الليلة فى منطقة العاصمة لمدة أربعة أيام اعتبارًا من 18 سبتمبر الحالي. أما إيطاليا، التى كانت فى يوم من الأيام بؤرة الفيروس فى أوروبا، فلم تشهد الزيادات الهائلة فى الإصابات التى شوهدت فى بعض البلدان المجاورة لها. لكن مسئولى الصحة حذروا من أن الشباب بدأوا فى نقل العدوى لأفراد الأسرة الأكبر سناً فى المنزل، حيث بلغ متوسط عمر الحالات الإيجابية الأسبوع الماضى 41 عاماً مقابل 30 عامًا فى أغسطس.

وفى بريطانيا، تم تسجيل نحو 5 آلاف حالة إصابة جديدة فى يوم واحد مطلع هذا الأسبوع، وهو أعلى عدد يومى يتم تسجيله منذ 8 مايو الماضي. ويحذر العلماء من أن عدد الوفيات، وهو اليوم بالعشرات، سيكون بالمئات فى غضون أسابيع قليلة. وفرضت السلطات قيودا جديدة لمنع تفشى الفيروس فى أجزاء من شمال غرب إنجلترا مثل نيوكاسل وسندرلاند ودرهام، وفى وسط البلاد فى مانشستر وبرمنجهام وليفربول، ومنطقة غرب يوركشاير.  وفى المجموع، يواجه نحو 14 مليون شخص قيودا محلية فى بريطانيا، أى ما يقرب من واحد من كل خمسة أشخاص.

وبينما كان الجميع يحاول تنفس الصعداء والعودة للحياة بشكل طبيعى جاءت الأخبار حول عودة الإغلاق الجزئى والقيود الجديدة على المستوى الوطنى لتثير حالة من الفزع. فعندما ظهر الفيروس فى يناير وفبراير الماضيين، لم يكن يتصور أحد أن يمسك بتلابيب كل شيء، ويغير شكل الحياة كما اعتادها الناس، ويقيد الحريات الأساسية بدءا من تجمع أكثر من 6 أشخاص فى العائلة،  إلى حرية الذهاب للمقهى أو المطعم بعد العاشرة مساء.  

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق