فى تكرار لمعركة استقطاب اختيار مدير منظمة الملكية الفكرية التى خاضتها الدبلوماسية الأمريكية ضد الصين فى مطلع العام الحالي، تعاود واشنطن تعنتها تجاه اختيار المدير الجديد لمنظمة التجارة العالمية، التى تم تأسيسها عام 1995 فى جنيف بسويسرا للسماح بتيسير عمليات التجارة الدولية وحل المنازعات فى ضوء تطبيق القوانين الدولية المعنية.
وعلى الرغم من حرب التصريحات، فإنه تم حسم أولى مراحل اختيار المدير الجديد قبل شهرين من خلال الاستقرار على ثمانية مرشحين من بينهم مصري، إلا أنه خرج من المنافسة مع نظيريه المكسيكى والمولدوفي. ضمت القائمة القصيرة التى تم إعلانها قبل أيام خمسة من المرشحين من بينهم ثلاث نساء بالإضافة إلى مرشحى المملكة المتحدة والمملكة السعودية. ومن المتوقع استمرار المداولات لاختيار المدير الجديد وإعلان اسمه فى نهاية أكتوبر المقبل بعد التشاور بين ممثلى 164 دولة من الأعضاء، ومن بينها دول الاتحاد الأوروبى التى تفاوض ككتلة واحدة.
بدأت خيوط المعركة فى التشابك منذ شهر مايو الماضي، بعد إعلان الدبلوماسى البرازيلى روبرتو أزيفيدو (62 عامًا)، الذى تسلم منصبه فى عام 2013، عن اعتزامه التخلى عن منصبه الذى حظى به لمرتين متتاليتين مع نهاية شهر أغسطس الماضي، وذلك قبل عام من انتهاء فترة ولايته رسميا فى أغسطس 2021، وذلك لأسباب «عائلية» كما جاء فى خطاب اعتذاره دون الإشارة إلى خططه المهنية المقبلة، وهو ما تمت معرفته لاحقًا مع نهاية أغسطس بالإعلان عن اختيار أزيفيدو لمنصب نائب الرئيس وإدارة الشئون العامة لشركة المشروبات الأمريكية العملاقة «بيبسى كو»، وهو منصب جديد يجمع بين النشاطات المتعلقة بالسياسة العامة الشئون الحكومية والاتصالات ليتمكن على حد قول الشركة من «التركيز على تعزيز جهود المشاركة الخارجية للشركة مع الحكومات الوطنية والدولية والهيئات التنظيمية والمنظمات الدولية والجهات الفاعلة غير الحكومية لتحقيق نمو مستدام وشامل طويل الأجل».
ومنذ مطلع الشهر الحالي، وفى خضم ركود اقتصادى عالمى بسبب تفشى وباء كوفيد-19، والضغوط المنتظرة للتحضير للمؤتمر الوزارى فى 2021، وإحياء المحادثات التجارية المتوقفة، ومعالجة النزاعات بين المنظمة والولايات المتحدة، تصاعدت حدة الخلافات مع إصرار واشنطن على تعيين ممثلها مديرًا مؤقتًا للمنظمة فى ظل معارضة صينية وأوروبية، وهو ما دفع المنظمة إلى الاستعانة بنواب المدير السابق الأربعة (أمريكى وصينى وألمانى ونيجيري) للقيام بمهامهم لتسيير شئون المنظمة لحين الانتهاء من عملية الاختيار. وتزامنت تلك الأزمة مع وقوف المنظمة إلى جانب الصين فى قضية الرسوم الأمريكية المفروضة على البضائع الصينية منذ عامين باعتبارها مخالفة للأعراف الدولية، وفى الوقت نفسه نجحت التهديدات الكندية فى دفع واشنطن إلى التريث بخصوص فرض حزمة جديدة من الضرائب المفروضة على الاستيراد إلى ما بعد الانتخابات. ومن المتوقع أن يؤدى ذلك إلى مزيد من الضغط على الإدارة الأمريكية التى تعانى العجز التجارى الأسوأ منذ 12 عامًا. وكانت اللجنة المؤلفة من ثلاث من الدول الأعضاء فى المنظمة، قد أوضحت فى تقرير من 66 صفحة أن التعريفات الجمركية على سلع صينية بقيمة 234 مليار دولار تتعارض مع الالتزامات الأمريكية بموجب قواعد التجارة العالمية، مع رفض المنظمة للادعاء الأمريكى باستخدام فرض التعريفة العقابية للدفاع عن الاقتصاد الوطنى والتصدى للممارسات الصينية على حد قول واشنطن. ويمنح قرار المنظمة فرصة للصين بفرض رسوم جمركية فى المقابل على منتجات أمريكية، فى الوقت الذى يمكن لواشنطن الاستئناف وإيقاف أى إجراء تجاهها فى ظل الوضع الحالى المتعثر للمنظمة التى أوقفت تعيين أعضاء جدد فى هيئة الاستئناف التابعة لها.
من جهة أخري، وعلى صعيد إدارى وفى إطار عملية اختيار المدير الجديد للمنظمة، وبعد فتح باب الترشح فى يونيو المنصرم، شهد شهر يوليو المرحلة الثانية وهى عقد جلسات استماع لم تتجاوز 75 دقيقة لكل المرشحين الثمانية المدعومين من جانب دولهم، لتبدأ بعدها المرحلة الثالثة أو التصفيات التى بدأت بإعلان القائمة القصيرة والتشاور بعدها حتى نهاية أكتوبر المقبل، تحت إشراف النيوزيلندى ديفيد والكر رئيس المجلس العام، والهندوراسى داسيو كاستيلو رئيس هيئة تسوية المنازعات، والأيسلندى هارولد أسبيلوند رئيس هيئة مراجعة السياسة التجارية.
ضمت قائمة الثمانية الأولية كلًا من المكسيكى د.خيسوس سيدا كورى المفاوض الحكومى فى الاتفاقيات التجارية بين بلاده والولايات المتحدة، بالإضافة إلى تيودور أوليانوفشى وزير الخارجية المولدوفى السابق، والدبلوماسى المصرى عبد الحميد ممدوح المقيم فى سويسرا منذ 35 عاماً، منذ وصوله ضمن البعثة الدبلوماسية المصرية لدى الأمم المتحدة، وصولًا إلى شغله عدة مناصب فى المنظمة، وقد خرج الثلاثة فى التصفية الأخيرة وخلت القائمة القصيرة من أسمائهم. واقتصرت القائمة على كل من د.ليام فوكس وزير التجارة الدولية السابق وعضو البرلمان البريطانى المؤيد لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى فضلًا عن ثلاث نساء، هن: النيجيرية د.نجوزى أوكونجو إيويالا وزيرة المالية السابقة والعضو السابق ضمن فريق قيادة البنك الدولى ، والكورية الجنوبية يو ميونج هى وزيرة التجارة، والكينية أمينة محمد المبعوثة السابقة لدى المنظمة ووزيرة الخارجية والتجارة والرياضة والثقافة السابقة. ومن المنطقة العربية، رشحت المملكة العربية السعودية محمد التويجرى وزير الاقتصاد والتخطيط السعودى السابق، ووزير مستشار الديوان الملكى فى الشئون الاقتصادية الدولية والمحلية الإستراتيجية
وهكذا، تستمر عملية الاختيار فى ظل صعوبات عالمية وتغييرات جذرية فرضتها تداعيات جائحة كوفيد - 19 على دول العالم الثرية والنامية على حد السواء لاستعادة عافيتها فى ضوء مفاهيم جديدة ليس أقلها تنامى عمليات التجارة الافتراضية والتوسع فى مفهوم العمل من المنزل وغيرها من محاولات التواؤم التى لن يعود العالم معها إلى ما كان عليه قبيل الجائحة، وهو ما يفرض على المنظمة تحديات هائلة لاستعادة دور التجارة التى كانت دوما جسرا للعبور بين الأمم والحضارات ليس فقط على مستوى البضائع ولكن أيضا فيما يخص الثقافات والمعارف والاختراعات التى تشاركها سكان كوكب الأرض.
رابط دائم: