رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

انقطع الخيط فانفرطت حبات المسبحة

محمد جبريل

لكل شيء أوان، الليل يسبق الفجر، الهلال يسبق البدر، الطفولة تسبق الكهولة، الدروشة تسبق الجنون.

تحولت الفرقة إلى فرق صغيرة، تعددت مسمياتها وأنواعها، ثمة أصحاب السجاجيد وأتباع الطرق وسكان الزوايا والمريدين والدارويش والمجاذيب، كل من نظر إلى نفسه هو شيخ، له مريدون وأوراد وأذكار. ثمة من نزع إلى التسلط على بقية الفرق، وجد فى اختلافاتها، وميل شيوخها إلى القسوة، ما دفعه إلى التسلل بأتباعه. تداعى أتباع الفرق الأخري، أظهروا الهراوات والشوم والسيوف والسكاكين والمطاوي.

لم يعد حوله فى الفرقة الأصلية سوى القلة من قدامى المريدين، هجر الباقون الطريقة، انضموا إلى طرق أخري، لم يعد يتجاوز تأثير كلماته جامع المسيري، تقتصر حضرته على الصحن الصغير، ما بين صلاتى المغرب والعشاء.

اختلفت الروايات عن بداية تنبه أهل بحرى إلى وجوده فى حياتهم، أول قدومه حين رآه عودة الشتوى، المخلص بالميناء، يصحبه أفراد من عائلته إلى خارج الدائرة الجمركية. تعددت رؤيته فى جلوسه على قهوة الصيادين، قبالة نقطة الأنفوشي، متابعته ــ من السور الحجرى ــ صيد الجرافة فى المالح، أوامره لمن يسرعون بالتلبية. حتى اسمه ظل مجهولًا حتى دخل نقطة الأنفوشى لطلب كشف الحالة المدنية.

اسم مبروك الشافعى عبد الرحيم طرف خيط، وصله العجائز بعائلته الموزعة فى بحرى، وأحياء الإسكندرية الأخري، متزوج، وله ولدان وبنت، يمتلك بيتًا ورثه عن أبيه فى شارع الحجاري. طالت إقامته فى الخارج للدراسة والعمل، حتى أزمع العودة إلى بحري، يخلف أباه فى وكالة لتجارة الجملة بشارع الميدان.

صار ــ فى مدى قصير ــ ملمحًا من العيش فى الحي، يتبادل السلام مع أصحاب الدكاكين ورواد القهاوى والواقفين على أبواب البيوت، يتدخل لإنهاء خناقات الشارع، يذاكر مع العلماء والفقهاء والمتنورين من وجهاء الحي، يهتز بدنه مع الذاكرين على رصيف البوصيري، صفان فى طرفى الحصير، ينبههم إلى أن الملائكة تشاركهم أداء الذكر. اعتقد فيه الناس الصلاح والهداية والقرب من الله.

لا يعرف أبناء الحى ظروف عظاته فى مسجد المسيري، وإن فسر بندارى طلبة تاجر العلافة بسوق راتب إجادته الوعظ برواية الكثير من السير والحكايات فى عامية سهلة الفهم، تحث على الإصغاء والمتابعة. يمضى ــ بعد صلاة المغرب ــ إلى المسجد، أو إلى دكة المبلغ، بالقرب من باب الدخول فى أبو العباس، يتوقف السائرون لسماع صوته فى تلاوة آيات القرآن من موضعه بالقرب من الباب، ثم يدخلون المسجد لاستكمال السماع.

ثلاثة أيام متوالية فى صحن المسيري، تعقبها أيام ثلاثة أخرى داخل جامع سلطان الإسكندرية، يخلو إلى نفسه فى بيته، عقب صلاة الجمعة، لا يغادره حتى رفع أذان الفجر.

يتشكل ــ فى اللحظة التالية لقدومه إلى الجامع أو المسجد ــ نصف الدائرة حوله، يصل ما انتهى إليه من درس المغرب، يتخلله تلاوات قرآنية، وأدعية وتسابيح. اعتاد المريدون ــ فى بدايات عظته ــ تباطؤ الكلمات، وخفوتها، تعلو، تلتئم، تكسوها الجهارة، فتدفع الآذان إلى الإنصات.

تزايدت أنصاف الدوائر بتوالى الأيام، صارت دوائر كاملة، تلاصقت فهى حشد من المريدين وطالبى الموعظة. أخذ الكثيرون عنه، وانتسبوا إليه.

ينصت إلى زواره بإصغاء شديد، لا يسأل، ولا يقاطع، حتى ينهى الزائر كلامه، يتجه إليه بالاستفهام والسؤال والاستقصاء والمحاورة. ثم يواجهه بالرأى إن كان أخطأ فى روايته أو أصاب.

يجيل نظره فى المحيطين بمجلسه، يعرف من ألف الوقوف، ومن تردد عليه للمرة الأولي, يثبت عينيه فيه، يفاجئه بأسئلة تعكس ــ أمام الزوار، وأمام الوافد الجديد ــ فهمًا لأدق أسرار حياته, يغلبه الارتباك والتلعثم، يخشى أن يخفى شيئًا, يكشف الشافعى ما أخفاه، ويداعبه بكلمات فاهمة.

العين مرآة حقيقية للنفس، هى أصدق ما فى الإنسان تعبيرًا عن مشاعره. قد يختفى الكذب، أو الملق، أو المداهنة بالكلمات المنطوقة، وقد تناقض انفعالات الأيدى ما يحرص المرء على كتمه، العين تبوح بما قد يحاول المرء إخفاءه، بما تعجز حواس الجسد عن مداراته.

يجيد قراءة عينى محدثه، ما يحاول إخفاءه، إن كان قد فعل ما يعيب، أم أنه يعد لصنعه؟

يطيل الإنصات دون أن يعلق بشيء، كأنه لم ينصت جيدًا، أو أن الأمر لا يعنيه، إذا أنهى الزائر كلامه، هز رأسه، وأغمض عينيه، وتكلم بفهم الذى تابع الكلمات من البداية. يملى أفكاره وخواطره وتأملاته وآراءه فى أمور الدين والدنيا، يلحظ ما لا يلحظه سواه، يرى الأشياء المثيرة للتأمل والدهشة، ما لا تراه أعين الآخرين.

لم تكن فراسته تخيب فى التعرف إلى قاصده. ينظر إليه، فيعرف ما بنفسه، يصارحه بما فى داخله، وما كان يعتبره من أسراره الخاصة، ما يحرص على إخفائه, عرف عنه القدرة على النطق بما يجول فى ذهن محدثه، يحدق فى العينين، يتبين ما إذا كان الصدق هو ما تقوله الكلمات. حتى ما قد يكتمه الرجل فى نفسه، يتكشف أمامه، ويتبينه، وإن فرض التأدب أن يقتصر على ما يبلغه من الكلمات.

يخاطب كل واحد من زائريه، بشرح حاله، وما يضمره فى نفسه. عندما يحرص على السؤال، لا تفوته ملاحظة الكلمات والتصرفات والأشياء، ربما حصل على ما هو أكثر من توقع الأجوبة.

من يواجه اتهامًا ما، يقسم على المصحف لصق مقام أبو العباس، ينجو بنفسه إن كان صادقاً، ويلحقه الأذى فى جسده، إن حاول الكذب.

تحدث الناس عن علو مقامه، وأنه من أهل الأسرار، وأصحاب الكشف. يلجأ ــ قبل أداء عمل ما ــ إلى صلاة استخارة، يرى إشارة الخير فيقدم، ويرى إشارات الشر، فيبتعد. يستشعر الحادثة قبل وقوعها، يتكلم بما فى ضمائر الناس. لا تقتصر قدراته على معرفة ما يدور فى داخل الشخص، لكنها تحيل المعرفة إلى حقيقة، لا يعمد إلى تعازيم، وإلى وسائل سحر من أى نوع، الوميض المنبعث من عينيه يشى باختراق نظراته لكل ما تقع عليه فى البشر والحيوان والأشياء، يشرد، كأن عينيه تنظران إلى عالم آخر غير الذى نعيش فيه، كأنه يتأمل ما تغيب رؤيته.

ألف الناس رؤيته على الشاطئ، يجمع القواقع والأصداف من الرمال، يضعها فى قدر يغلى بالماء، يضيف إليها طحالب وأعشابا جمعها من مد الموج. ذاع امتلاكه وسائل الشفاء من الأمراض المستعصية. أتى إليه زوار من أحياء الإسكندرية، والمدن القريبة، يثقون فى قدرة ولى الله على إزالة ما علق بأجسادهم من أمراض، وعلى طرد السحر، وتفريج ما تعانيه النفوس من هموم. يتطلعون إلى مواجهة نظراته، النظرة السريعة، الوامضة، تزيل المرض من الجسد كأنه لم يكن. يكتفى بالنظرة السريعة لبطن المرأة الحامل، وهى ترتدى ثيابها، يعرف ــ من استدارة البطن ــ إن كان الجنين ذكراً أم أنثي.

يقول للواقف أمامه:

ــ أنت تريد الشيء الفلاني، عند عودتك إلى بيتك ستجده بإذن الله.

وعلا صوته ــ ذات عشاء ــ بنبرة محذرة:

ــ ماذا فعل الخضر لما فقد موسى صبره؟

أردف للمريد الذى ألحت أسئلته:

ــ لو أنك أسرفت فى السؤال، فسأفارقك.

أنكر نعمان جاد الله، عرضحالجى المحكمة الكلية، أكثر ما قاله الشافعي. رد نفسه عن إعلان إنكاره، دفعه الشافعى فى صدره بقبضة مترفقة، وقال:

ــ ما تنكره صفحات فى كتب العارفين.

وهز الكتاب فى يده:

ــ اقرأها وتعلم!

وحدج الصياد ربيع جاد الله بنظرة متأملة:

ــ إرادة الله تحكم مصائرنا، كل ما نعيشه مكتوب على جباهنا فى اللوح المحفوظ.

وحدق فى الفراغ، كأنه ينظر إلى ما لا نراه:

ــ لا أحد يعرف مصيره.. يتمنى أن يكون شيئاً فيصبح شيئًا آخر!

صحا المعلم طلبة عبد الشكور على حلم أفلت فيه من قبضتين حاولتا خنقه. كان يستعيد - فى نفسه ــ ما رأي، حين طالعه الشافعى بنظرة متأثرة:

ــ ما رأيته كابوسًا لا قيمة له!

عرف أن الشافعى كوشف بما رآه فى نومه.

ولما أراد شعبان خادم البوصيرى أن يمنع درويشًا من دخول الميضة، تناهى صوت الشافعى يقول: لا تفعل، فهذا الأمر فيه بركة!

لم يدع الولاية ولا القطبية، وإن أعلن مريدوه ــ فى جلوة المولد النبوى ــ نشأة الطريقة. خواص المريدين، الأوتاد والنقباء ومن دونهم، يحفظون القرآن، ويفقهون أحكام الشريعة، ويتبعون السنة.

عهد الشيخ إلى جماعة من خواصه، كل واحد يتولى عددًا من المريدين، يعلمهم، يفقههم فى أمور الدين، يشير بما يجدر بهم صنعه فى مشكلات دنياهم. يمر المريد بمراحل من الإعداد، قبل أن يتهيأ للمثول بين يدى الشيخ، وأخذ العهد.

ألزم مريديه أن يجد كل منهم لنفسه عملًا يرتزق منه. يسكن إليه، ويؤنس به. يقوّم الضال منهم، يرشده إلى الطريق الصواب.

شرط على مريديه أن يكون توضؤهم أسبق من الوقوف فى الحضرة، يسبغون الماء على رءوسهم ووجوههم وأذرعتهم وسيقانهم، بما يزيل وساخة الجسد وخطايا النفس. حذرهم من حمل المدى والخناجر والبلط، يستبدلون بها السيوف الخشبية والتروس المقتطعة من الشجر.

نسب إليه المريدون من الكرامات والخوارق ما يصعب تصديقه، عرفوا فيه التنبؤ، وتوقع ما سيحدث. أشياء لا يرونها، ولا تخطر فى الأذهان، لكنه يفاجئهم بالتكلم فيها. يطيل الكلام عن التفصيلات والمنمنمات، كأنها أمامه.

روى أنه على صلة بسلطان الإسكندرية المرسى أبو العباس، يلتقيه فى المنام، وفى لحظات الصحو التى يستغرقها الشرود، يوصيه بما يجب فعله، يحذره مما قد يشوب أداء الطريقة.

اعتقد الناس فيه ولاية اقتصرت على الأقطاب، لكن خاصة المريدين والمحسوبين عليه واصلوا طرق الحديد الساخن، حتى استقرت الحكايات فى أذهان الناس.

قيل إنه يمتلك من الأسرار ما يعجز عنه الأقطاب الكبار، الظواهر التى لا يجدون لها تفسيرًا: الإسراء والمعراج، دخول الجنة والنجاة من النار، النأى عن حساب الملكين، موعد سقوط الأوراق من شجرة العمر، يعلم كل شيء، حتى موعد رحيله عن الدنيا يعرفه، الموعد لا يباغته لأنه يعرض عليه، فيقبل، أو يطلب ــ لصالح الطريقة ــ إرجاءه. رأى كل شيء، أو أنه رأى ما يستحق المشاهدة، لم يعد أمامه ما يثيره، أو يستفز فضوله، يتواصل مع الموتي، سواء كانوا أولياء أم أناساً عاديين، يمتلك وسائط تتيح له الفعل، بشكل مرئى أو خفي، قدراته الروحية تفوق ما لدى البشر، يمتلك حتى القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وعلى تسخير الملائكة والجان والحيوان والكائنات الساكنة، عرف عنه سماعه للأصوات من حوله، حتى وهو مستغرق فى النوم. يرى الملائكة، يسمع تسبيحاتهم وأقوالهم، يكلم الجن، ويخاطبهم، ويكلم الدواب، ويحرك الجمادات والسيميات. قيل إنه رأى ملك الموت عند دخوله على مريض يعاني، أشفق على المريض رعايته أطفالًا، فأمره بالانصراف.

عرف الناس أنه يتوارى خلف مريديه، يلقى عظاته ونصائحه، يشير بما ينبغى أن يفعلوه، لكنه يرفض الخوض فى التفصيلات، لكل مريد ظروفه التى تملى عليه تصرفه ورأيه، ما عليه إلا فعل الشيء الصحيح. هو لا يكشف ما بداخله، إنما يترك محدثه يفض عما بنفسه، وحين أذن للمريدين بالتجول فى دنيا معرفته، أرهقوه بالأسئلة، تيقنوا أن فى حوزته الكثير من الأسرار التى لم يستطع أحد فضها, يعرف أسرار الحروف والطلسمات.

سئل فى ما هو واضح، وما لا يحتاج إلى تفسير. كبرت الأسئلة، تضخمت، ملأت المكان. لم يخرج الشيخ عن هدوئه، وأجاب عن كل ما ألقى عليه من أسئلة. علم مريديه ما قرأه فى كتب السحر والكيمياء، واختبر النتائج بنفسه. أظهر قدرة لافتة على الاستنباط، وكشف المحجوب، ومكاشفة الناس بأمور المستقبل، أعطى لكل مريد الحق فى إعلان رأيه، وإن أخذ على إصغاء كل واحد من مريديه أنه يتوقع العظة التى يطلبها، والمعنى الذى يريده. أضاف تنبيهه إلى الكثير من الإسرائيليات المدسوسة على التفاسير. لا يؤنب المريد، ولا يوبخه، إلا إن جاوز حد الأدب. للحد شواهد واشتراطات.

راعه النشيج الذى تمرغ فيه المريد على الأرض، تابعه حتى هدأ، ثم قال له:

ــ ما فعلته لا صلة له بطريقتي، اترك هذا المكان.

ألف المريدون ــ منذ اليوم الذى سموه بيوم الأسئلة ــ ميله إلى الشرود، تتخلله تمتمات هامسة وأدعية، يعرف المريدون أنه يواصل ما غادر به إمامة المصلين فى البيت الحرام.

اتجه بنظره إلى جهة يتبينها ولا يرونها، وقال:

ــ لماذا لا ينتظمون أمام الحجر الأسعد، بدلاً من الزحام الذى يؤذي؟

عرف الناس أنه يشهد ــ حالًا ــ سعى الناس حول البيت الحرام. يرى الأماكن البعيدة من وراء الحجب، يتعدد ظهور الخضر والشاذلى والمرسى والمسيرى فى نومه، أواه الله تعالى إلى قربه، آنسه بذكره، أوحشه من الأغيار.

استوقف شريف عبد ربه، إمام جامع ميبر، فى انحناءة شارع سوق السمك القديم:

ــ يغيظنى من يرتدى عباءة التدين، ولسانه يقطر بالسم الزعاف.

زوى عبد ربه حاجبيه فى دهشة:

ــ أنا لم أتكلم.

رمقه بنظرة غاضبة:

ــ ماذا عما تنطقه فى داخلك؟!

لتيقن الساعين فى المجادلة أنه على بصيرة بكل ما يحمله المستقبل، يكاشفه الله بالغيوب، يرى ما لا يراه الغير، ما يعجز عن رؤية بقية الناس، يتنبأ بالقادم من الحوادث، تنبؤاته لا تخطئ بمواعيد الميلاد والوفاة والمرض والسفر وارتقاء المناصب والعزل منها، يجيد التعرف إلى آلام المريدين، يمتلك الكشف الصحيح، يستطيع ــ من خلاله ــ أن يخبر المريد بما يحاول إخفاءه. يرى ما لا يراه الناس، أو أبعد مما يرون.. لتيقنهم من ذلك، تحركت فى نفوسهم مشاعر الضيق والغيظ.

قالوا إن عظاته مفعمة بما يمتنع فهمه عن ذوى الأفهام البسيطة، فضلًا عن الخواص والنخبة، وإنه كثيرًا ما يخلط بين ما وقع فى الحس، وما يراه فى الخيال. أشفقوا من إلحاح أسئلته، يعرف أسرار مريديه، فيسهل عليه إخضاعهم لإرادته، يجيب عن الأسئلة بأسئلة أخري، يسيّر الأمور بما يقضى هواه ومشيئته، يبصر ــ لا يخمن ــ تحرك الأفكار فى رأس المريد، يكشف له ما كان يتصوره من أسراره الشخصية، لم يبح بها لمخلوق. ربما بادر بالإجابة قبل أن يلقى المريد سؤاله.

أطال النظر إلى الشومة فى يد الشاب ذى البدلة الصيفية، توقع أن يهوى بها عليه، اقتحمت نظرته الشاب، فألقى الشومة، وجري.

فى عودته إلى بيته لمح شرر عينى الرجل فى ظلمة الدحديرة المفضية إلى الموازيني.

قال بنبرة متألمة وهو يجاوز الرجل:

ــ ربما تلبستك قوة تؤذيك بالسلاح الذى تخفيه.

ظلت أسباب ابتعاد مبروك الشافعى عن بحرى غائبة، وأسباب عودته إلى حياة الناس غائبة كذلك.

السر الذى شغل الجميع تفرّع ست عشرة طريقة عن طريقته، بدّل ما بها من تشابه، ما تدعيه كل فرقة لنفسها من تفرد فى الطقوس والأذكار، ومن امتلاك القوة.

حل بأهل بحرى ما يصعب احتماله. تناثر فى الشوارع والميادين والساحات مريدو الطرق، يطوحون الشوم، يبسطون الأيدي، ربما لجأوا إلى الزغد واللكم. تابع الناس جماعة من البحارة الأجانب، مالوا من طريق النصر إلى شارع الميدان، مضوا فى ميدان المنشية، حتى البناية المواجهة للكنيسة الإنجيلية. قطع أسئلة الفضول وقوف عدد من البحارة فى شرفة مقر الطريقة السلامية، المطلة من الطابق الثانى على الميدان.

عزا الشيخ إلى شيوخ الفرق تحريك نوازع الفتنة. لم يتدبروا أفعالهم، فامتدت النيران بما جاوز التصور. شدد الشيخ على مريديه، لا يتركوا الطريقة إلى طرق أخري، حرّم شيوخ الوقت ــ مقابلًا لمطلبه ــ على المريدين حضرته، فى المسيرى أو أبو العباس، أو فى قعداته على المقاهي. عابوا على فرقته ضعفها، وأنها بلا قواعد ولا أسس، فتغلبت الفرق عليها.

بدأ المريدون فى تحاشى مجالسه، إذا لمحوه ــ عن بعد ــ اختاروا طريقًا مغايرة فلا يراهم. من يسير بالقرب منه، يشيح بوجهه، لا يلتفت، حتى لمن يعرفهم ويعرفونه من الباقين على الطريقة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق