رغم ما تحلى به الرئيس الفرنسى ماكرون من دبلوماسية ولباقة مزوّدا بدقة اللغة الفرنسية إياها فى زيارتيه إلى لبنان فى 6 أغسطس الماضى ثم أول سبتمبر الحالى، فإن الموقف لم يسعفه وسقطت منه الكلمات على حواف الميكروفون لتكشف عمق الأزمة فى لبنان. لا أحد يجهل أن ثمة علاقة تاريخية وثقافية وروحية خاصة تجمع فرنسا بلبنان بأكثر ربما من أى بلد عربى آخر. ولا أحد ينكر أيضا إيجابية الاهتمام الفرنسى بلبنان والتفاعل مع قضاياه لدرجة قيام ماكرون بزيارته بعد أقل من 48 ساعة من انفجارات بيروت المروّعة والمأساوية. لكن حينما يُنذر الرجل من لبنان بأنه ما لم توف السلطات اللبنانية بما تعهدت بتنفيذه قبل آخر أكتوبر فستكون هناك عواقب لذلك، ويهدد من لبنان بتوقيع عقوبات على الفاسدين فى لبنان، فإن هذه الأقوال تبدو كأجراس تُقرع وتعلن عن أزمة ربما تتجلى وتتكرر بعض جوانبها فى أماكن عربية أخرى، ويُفترض بالتالى أن تصل إلى هذه الأماكن.
أول جرس يُقرع فى لبنان هو أن الناس أصبحت تنتظر الخلاص والمخلّص من الخارج. أما فى الداخل فالحياة السياسية والحزبية بأفكارها وآلياتها وأشخاصها تعانى أزمة عميقة، فهذه حياة سياسية وحزبية عربية استنفدت نفسها وطاقاتها وفقدت ثقتها فى نفسها وثقة الناس فيها. تلك هى الخلاصة أيا كانت الأسباب أو الملابسات, لأن العبرة بالخواتيم كما يُقال. ولهذا كان لافتا بشدة أن يُعلن عقب انفجارات بيروت فى أغسطس الماضى أن المساعدات المقدّمة إلى لبنان سيعهد بمهمة توزيعها إلى الجيش اللبناني. كل هذا يعني، للبنان ولغير لبنان، أن الفساد والمحسوبية والنهب العام وإفقار الدولة والفوضى المنظمة قد دفعت الناس دفعا إلى اللجوء لقوة ما من خارج كل السياقات والتنظيمات الحزبية أو حتى الرسمية التقليدية.استحضار دور الجيش هنا يعنى الثقة فى طرف وغيابها فى طرف آخر رغم تحفظات قطاع من الناس على إقحام الجيش فى السياسة الداخلية.
هذا مشهد يثير التساؤل هل أصبح الجيش ملاذا لقطاع واسع من الناس فى العالم العربى, لأنه لم يعرف بحكم تكوينه الوطنى ومهمته الحمائية الصراعات والمناورات والألعاب والأجندات السياسية الحزبية؟ أم لأنه يضمن قوة الحزم وفرض النظام فى أوقات غياب اليقين والفوضى؟ أم لضجر الناس وسوء ظنها بالطبقة السياسية نفسها؟ تعدد الإجابات والاختلاف بشأنها وبالأسباب التى أوصلتنا إليها لا يمنع من كون النتيجة واحدة وهى أن الناس أصبحت تبحث عن خلاص جديد، ولو باللجوء إلى قوة تجسد الضمير الوطنى غير المرتبط بتحزب أو أيديولوجيا. بدا لافتا كذلك ما قاله الرئيس ماكرون إنه سيُعهد أيضا إلى بعض مؤسسات المجتمع الأهلى بتوزيع المساعدات الفرنسية، وهو ما يكشف مرة أخرى عمق شروخ الثقة فى المؤسسات الحزبية التى يُفترض أن لبنان قد قطع على دربها شوطا طويلا، بل وفى مجمل المؤسسات الحكومية، فأصبح المجتمع الأهلى بديلا فى الحالة الثانية مثلما كان الجيش بديلا فى الحالة الأولى، وغابت الكيانات الرسمية للدولة فى الحالتين. هذا جرسٌ آخر يُقرع فى لبنان. فى هذا المشهد يبدو لبنان حائرا ومحيّرا معا. لبنان حائرٌ بفعل قدره الطائفي. فبينما فى كل المجتمعات العربية ثمة أكثرية دينية وطائفية معينة مقابل أقلية دينية أو طائفية محدودة العدد، وتمضى الأمور فى هذه المجتمعات بين التعثر والتطور وبقدر ما بلغه مفهوم المواطنة فى وعى الناس والضمير السياسى والقانونى للدولة، فإن لبنان وحده يضم 18 طائفة دينية معترفا بها رسميا وممثلة برلمانيا.
ظل لبنان وكأنه يمشى على حبل مشدود محاولا حفظ توازنه فيثير إشفاق البعض خشية سقوطه، وإعجاب البعض الآخر بمرونته. لكن لبنان الحائر السائر على حبل مشدود إلى أربعة اتجاهات يبدو اليوم وقد أنهكته لعبته واستنزفته مهارته ومطلوب منه أن يحدد خياراته. فما الذى تغيّر هذه المرة ليُطلب من لبنان بأكثر ربما مما يحتمله قدره الطائفي؟ إنها الأعاصير الخارجية التى تهب على بلاد العرب تؤذن بمخططات ورؤى جديدة فى أحدث نسخة من لعبة الأمم. لبنان الحائر بتعدديته التى أنتجت فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى حقبة مترعة بالحريات والتمثيل النيابى والانفتاح ليحظى آنذاك بوصف سويسرا الشرق سرعان ما أفرز حربا أهلية عام 1975 كان أحد أسبابها التزامه العربى بالقضية الفلسطينية. بدا لبنان فى فترة ازدهاره الأول نموذجا يثير قلق الآخرين رغم أية مثالب أو انتقادات توجه لديمقراطيته التمثيلية. أثار لبنان قلق نظم شمولية عربية حوله تخشى من مقارنات الشعوب وتطلعاتها بقدر ما كان يثير عدم ارتياح إسرائيل التى أقامت نظرية تفوقها الحضارى وادعائها الديمقراطى على أساس أنها واحة الحريات والديمقراطية فى صحراء العرب القاحلة، هذا بخلاف انزعاجها بالطبع من النزعة العروبية المقاومة لدى قطاع واسع من اللبنانيين. والمفارقة أن النموذج اللبنانى كان يثير غيظ إسرائيل بالأمس حين كان يكشف زيف انفرادها الحرياتى والديمقراطي، واليوم وهى ترى أن حزب الله الذى يشكّل مع طهران ودمشق محور الممانعة ما زال مربكا ومزعجا لها.
لبنان حائرٌ بشأن ديمقراطية توافقية كانت تتوزع أركانها وفقا لأعداد طوائفها، لكن هذه الأعداد أخذت تتغيّر بشكل لافت لمصلحة طوائف مقابل أخرى. فبينما كان مسيحيو لبنان فى عام 1932 يمثلون 59% من السكان، والمسلمون 40% انخفضت نسبة المسيحيين فى عام 2018 إلى 31% وارتفعت نسبة المسلمين إلى 69%، وفى هذه النسبة الأخيرة بلغ عدد الشيعة 31.6% مقابل 31.3% للسنة (صحيفة النهار اللبنانية عدد 27/7/2019 نقلا عن الشركة الدولية للمعلومات). لم يستطع المجتمع المستنير فى لبنان الزاخر بالعقول الذى يحظى أبناؤه بتعليم جيد وخيال إبداعى لافت أن يطوّر ديمقراطيته التوافقية على أساس قاعدة المواطنة لا الطائفة. فلا زعماء طوائفه متحمسون لذلك ولا العقل الشعبى الباطن قادر عليه، باستثناء قطاع من الشباب حاول دون جدوى التعبير عن تطلعاته فى دولة المواطنة والحكم الرشيد ومكافحة الفساد خلال تظاهرات خريف 2019.
لكن لبنان الحائر يحيرنا معه حين يبلغ اليأس ببعض أبنائه حد التوقيع على عريضة تطالب بعودة الانتداب الأجنبى مرة أخرى إلى لبنان. عدد الذين وقعوا على العريضة (36 ألف لبناني) يمثل 1% من عدد اللبنانيين المتمتعين دستوريا بحق الانتخاب، وربما وقّع هؤلاء تعبيرا عن احتقانهم ويأسهم لا أكثر، لكن ما يثير الحيرة هو رمزية الطلب ودلالاته. هذا يعنى أن البعض فى هذا العالم العربى أصبح يرى مستقبله فى ماضيه، وتلك ذروة الدراما السياسية والاجتماعية العربية. ربما يُحسب للموقعين على هذه العريضة صراحتهم فى التعبير عن رأيهم بشجاعة لا تخلو من مرارة ويأس، لكن ماذا عن العرب الآخرين الذين لم يجهروا بذلك, وإن كانوا يضمرونه. حقا ما أصعب هذا الزمان العربى.
لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم رابط دائم: