رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

التناقض الحتمى المقبول

حديث الرئيس السيسى عن مواجهة الفوضى والخروج على القانون، وعن الحفاظ على هيبة الدولة وكيانها؛ يفتح الباب مجددًا أمام حتمية العودة لقضية بناء الإنسان، التى اعتبرها الرئيس المهمة الرئيسية فى المرحلة الثانية من ولايته، ومن البديهى أنها مهمة لا يمكن إنجازها مثلما تنجز المشروعات الخدمية والإنتاجية- من طرق وجسور وقنوات ومزارع للنبات وللأسماك، إلى آخر ما هو فى هذا المجال- حيث إنه إذا توافر القرار والإرادة والإمكانيات المالية والفنية والإدارة القوية تم إنجاز المطلوب، أما بناء الإنسان فأمر مختلف، خاصة أن هناك مستوى عامًا يشمل الوعى المرتبط بالتعليم والثقافة، وهناك مستويات خاصة تتعدد بتعدد البيئات الاجتماعية ــ الاقتصادية ــ الثقافية، بين ريف وبين حضر وبينهما وبين بادية وسواحل، وكل ذلك لا ينفصل عما شهدته تلك المجتمعات الفرعية من متغيرات على كل الأصعدة، وما قد تحمله تلك المتغيرات من تناقضات، من قبيل زيادة نسبة من يدخلون المدارس العامة والمعاهد الأزهرية، واستفحال أعداد الخريجين، وفى الوقت نفسه زيادة واستفحال الأمية الهجائية بينهم، ثم استفحال الأمية الثقافية والدينية والأخلاقية بين الجميع، الأمر الذى أسهم مساهمة رئيسية فى اتساع وتعميق غياب الوعى ببديهيات عامة، كاحترام المال العام، ومراعاة حقوق الدولة والآخرين، ومعرفة مصادر الخطر الذى يهدد الوجود العضوى للإنسان، ناهيك عن وجوده الحضارى والثقافي.

لقد سبق وكتبت- ضمن كثيرين- فى أن تجديد الخطاب الدعوى المتصل بالدين هو من صميم تجديد الخطاب الثقافى العام، وللأسف ــ بل وللخيبة ــ فإن مهمة تجديد الخطاب الثقافى العام لم تجد من يعتبرها أولى المهام الوطنية المقدسة، ولا من يحملها كمهمة رسالية تكون شاغله ليل نهار، ويعطيها ذاته حتى يخط سطرًا فى متنها، ليأتى آخرون- فى الزمان نفسه، وفى أزمنة تالية- ليكملوا السطور، أو ما أرى أنه مداميك الصرح الحضارى الثقافى المصري، بما فيه حوائط الصد التى تحول دون أى اغتراب أو استلاب.

ولقد تبين أن توافر ذلك الوعى لا يرتبط بالمستوى الاجتماعى والاقتصادي، خاصة فيما يتصل بالمال العام وهيبة الدولة، بل إننا نكتشف أنه فى العقود الأربعة الأخيرة كان أصحاب الأموال، ومن يسمون أنفسهم رجال الأعمال، هم الأكثر جرأة على نهب المال العام وأصول الدولة، والأكثر هروبًا من أى التزامات ضريبية ومجتمعية، بل إن الأفدح هو أنهم كانوا- وظلوا حتى الآن- المصدر الرئيسى لانحراف الموظفين العموميين فى الإدارة المحلية، وغيرها من مجالات، لم يكن أحد يتخيل أن تصل أياديهم إليها.. بحيث إن مصر شهدت فترة- منذ نهاية السبعينيات وبلغت ذروتها فى عقود تالية- كانت منظومة الفساد والإفساد والاستهتار والفتك بمقدرات الدولة على يد شريحة المقاولين، ابتداءً من المقاول ــ أبو لبدة ــ الذى لا يفك الخط، وصعودًا إلى المقاولين أصحاب الشركات والمكاتب الاستشارية الرنانة!

نحن إذن أمام ميراث رذيل بالغ البشاعة، ترسخ فى نفوس الناس، ولا بد من مواجهته مواجهة شاملة صارمة، مهما كان الثمن، كما قال الرئيس وكما تفعل أجهزة الدولة الآن.

إن كثيرين لا يلتفتون إلى بعض الأمور، ومنها أولًا أن القائد أو البطل أو الفرد الذى يحمل على عاتقه مهمة التغيير إلى الأفضل تحيط به معادلة تبدو متناقضة، فهو من جسدت فيه الأمة آمالها وطموحاتها لتحتفظ بوجودها الكلي، وتحافظ على أمنها وسلامتها وعيشها، وهو من يتعين عليه أن يهدم- وبغير تردد- ما استكانت إليه الجموع فى المجتمع واعتبرته مكتسبًا لها من مواريث فترات الاضمحلال والفساد وغياب دور الدولة، ومن هذا المكتسب أن كل واحد يفعل ما يشاء أينما ووقتما شاء، مستندًا إلى نفوذه المالى أو الإجرامى أو السلطوى أو الإفسادي.. فوجدنا من يبنى فى عرض الشارع العام ليسده، ومن يبنى فى حرم النيل والسكة الحديد، ومن يقتطع من البحر والبحيرات والنيل أيضًا ويردم ويبني، ووجدنا من يصعد بالخرسانات أضعاف أضعاف الارتفاع المقرر، ووجدنا من يستبيح رشوة الموظفين لأجل الاستيلاء على الأراضى والمبانى والمحاجر وغيرها، ثم إنه فى سياق الخطورة نفسها وجدنا من يتجه لقطاعات التعليم والصحة والغذاء ليفسد فيها ويدمرها، وليتحول نبل وسمو الاهتمام بإنشاء جامعات ومعاهد لهدف الارتقاء بالتعليم وبالوعى إلى خسة وتردى الاتجار والربح وتعمد تخريج أفواج ممن وقر فى عقلهم ووجدانهم أنهم تعلموا بفلوسهم وغشوا بفلوسهم واتخذوا من أساتذتهم مطايا للسخرية والدروس الخصوصية بفلوسهم أيضًا.. وهكذا الحال فى مستشفيات أقيمت من أجل الربح فقط، وهو أمر مباح إذا كان الربح مقابل خدمة علاجية جادة وتعتمد العلم وتطبيقاته، وليس النصب والفهلوة والمغالاة!

إننا أمام كارثة مجتمعية شاملة، تجمع بين الفوضى والفساد ونهب المال العام وأصول الدولة، وبين تحالفات مشينة أقامها أصحاب الفلوس من رجال الأعمال بمختلف مستوياتهم مع المفاصل الضعيفة فى أجهزة الحكومة، وامتدت الحال من الأراضى والبنايات إلى العقول والأنفس فى دور التعليم العام والجامعي.

ومن تلك الأمور الذى كان أولها تناقض العلاقة بين القائد وبين الجماهير، فإننا نجد ثانيًا أن الأوطان التى تثق فى أقدارها تستدعى عند أوقات التحول الجذرى من تاريخها ما سبق وسميته «الفرد التاريخي» وهى تسمية كان الفضل وسيبقى للراحل الكريم الدكتور فؤاد مرسي، أن هو من قدمها بديلًا عن مصطلح «البطل والزعيم الملهم» ضمن حوار مكتوب برسائل تبادلناها عند مطلع الثمانينيات، وأعتقد- وفق عشرات المسوغات- أن عبد الفتاح السيسى هو ذلك «الفرد التاريخي» الذى استدعاه الوطن فى هذه المرحلة الانتقالية الخطيرة، للمضى نحو مرحلة الاستقرار والتراكم، وهو ما بدأ بالفعل منذ ولايته الأولى، ولذلك لا يعد التمسك بقيادته ترفًا بقدر ما هو نتاج قراءة موضوعية للمرحلة.


لمزيد من مقالات أحمد الجمال

رابط دائم: