رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بوتين يحاول تجاوز «مؤامرة» أوكرانيا للوقيعة بين بلاده ومينسك..
موسكو تكشف عن التفاصيل وتنتظر الإفراج عن محتجزيها

رسالة موسكو د. سامى عمارة

بعد صمت طال لما يزيد على الأسبوعين أماطت موسكو اللثام عن بعض تفاصيل «المؤامرة» التى استهدفت الوقيعة بين روسيا وبيلاروسيا. كسر الرئيس فلاديمير بوتين فترة القطيعة مع نظيره البيلاروسى ألكسندر لوكاشينكو، بمكالمة هاتفية اعقبتها رسالة خطية من بوتين إلى لوكاشينكو فى خمس صفحات، فى الوقت الذى كشفت فيه مصادر روسية عن الكثير من أسرار تلك «الوقيعة» التى دبرتها أجهزة المخابرات الأوكرانية، وسقطت فى شباكها كل من موسكو ومينسك.

 جرى كل ذلك بعد حملة شديدة الوطأة شنها لوكاشينكو ضد روسيا التى اتهمها بالتآمر على استقرار بلاده قبيل الانتخابات الرئاسية، ليعود ويحاول خطب ود نظيره الروسى فى حديث صحفى حاولت أوكرانيا استغلاله لصب المزيد من الزيت فى أتون نيران الخلاف الذى اشتعل بين الجانبين. وكان الرئيس لوكاشينكو كشف فى خطابه الانتخابى الذى ألقاه فى الرابع من أغسطس الحالى عما وصفه بالمؤامرة التى استهدفت الإطاحة باستقرار بلاده. اتهم رئيس بيلاروسيا، روسيا صراحة بإرسالها إلى بلاده 33 من أعضاء مجموعة «فاجنر» للحراسات الخاصة، لتنفيذ هذا المخطط. وفيما كشف عن أن أوكرانيا أبلغت أجهزته الأمنية بتسلل هذه العناصر عبر الحدود المتاخمة لروسيا وأوكرانيا، وعن أن المعتقلين من «فاجنر» أدلوا باعترافاتهم حول مهمتهم فى بيلاروسيا، اتهم لوكاشينكو روسيا بتحويل علاقاتها مع بلاده من «علاقات الأشقاء» إلى «علاقات الشركاء». وأضاف أن هؤلاء «المرتزقة» وصلوا إلى بيلاروسيا فى مهمة تستهدف زعزعة استقرار بلاده قبيل الانتخابات الرئاسية، فى الوقت الذى قالت فيه المصادر الروسية إنهم كانوا فى طريقهم إلى أمريكا اللاتينية، لتعود وتقول إنهم لم يكونوا يقصدون فنزويلا. وحمل لوكاشينكو على روسيا بقوله: «إن كل ما يقولونه بشأن اسطنبول وفنزويلا وإفريقيا وليبيا، مجرد أكاذيب، كفوا عن الكذب، لقد أدلوا باعترافاتهم، لقد كانوا يقصدون بيلاروسيا»، لكن أحدا لم يطلع بعد على هذه الاعترافات. ومضى ليكشف عن أن أجهزة الامن الأوكرانية أبلغت بيلاروسيا أيضا بإرسال روسيا لمجموعة أخري، دون أن يصدر عن السلطات الروسية ما يمكن أن يكون تفسيرا منطقيا لما حدث، فى الوقت الذى تضاربت فيه التصريحات الرسمية، وإن تضمنت عمليا اعترافا بأن المعتقلين من أعضاء مجموعة «فاجنر»، وأنهم كانوا فى طريقهم إلى اسطنبول ومنها إلى فنزويلا للقيام بمهام حراسة المنشآت النفطية الروسية هناك، رغم أن موسكو أكدت فيما بعد عدم صحة كل هذه المعلومات.

وفى محاولة لاستيعاب الصدمة، أعلنت أجهزة الاعلام الروسية الرسمية «حالة الطوارئ»، وتحولت إلى ما هو أقرب إلى «ورش العمل»، بحثا عما وراء هذه الحملة المعادية التى كانت تبدو على يقين من أن أوكرانيا تقف منها على مقربة مباشرة. وفيما التزم الكرملين الصمت، سارعت ماريا زاخاروفا الناطقة الرسمية باسم الخارجية الروسية إلى وصف ما يجرى فى بيلاروسيا بـ«المسرحية»، فى توقيت مواكب لبدء حملة كاملة العدد لعبت فيها البرامج الحوارية « شبه الرسمية» الدور المحورى من خلال تقليب صفحات الماضى بما تضمنته من غزل لوكاشينكو مع الدوائر الغربية، فيما استعادت بعضا من مشاهد لقائه ووزير خارجيته فلاديمير ماكيى مع مارك بومبيو وزير الخارجية الامريكية الذى كان قد قام بزيارة مينسك فى فبراير الماضى لأول مرة منذ عشرين عاما. آنذاك كشف لوكاشينكو عن رغبة بلاده فى توطيد مختلف أشكال التعاون مع الولايات المتحدة، وأنه يأمل فى مساعدة الولايات المتحدة لتوفير الظروف المناسبة لبيلاروسيا لتحقيق «السيادة» والاستقلال». ورغم حدة لهجة خطاب لوكاشينكو وتوجيهه للعديد من الاتهامات التى اقترنت بقدر من الغزل مع البلدان الغربية تحت ستار تمسكه بنهج تنويع علاقات بلاده وسياساته، وتأكيده لانفتاحها على كل الأبواب شرقا وغربا، فقد أعرب لوكاشينكو عن حرص بلاده على علاقاتها مع روسيا، بغض النظر عن احتمالات تغير قيادات البلدين، على حد تعبيره. وعاد ليقول «إنه سيتم بذل كل جهد ممكن لضمان ألا تؤثر الاختلافات فى السياسة الخارجية، على صداقة الشعوب الراغبة فى العيش فى حسن جوار على هذه الأرض فى قلب أوروبا»، مشيرا إلي «أن روسيا كانت وستبقى على الدوام الحليف الاول لبلاده فى ظل أى قيادة فى البلدين». وأضاف أنه بعد الاستماع إلى تقرير رئيس مخابرات بلاده يؤكد « لن نبنى السياسة على الأكاذيب. لن نحل المشكلة بالصراخ على بعضنا البعض عبر وسائل الإعلام. لذلك إذا كان لدى أى جهة روسية الرغبة فى تلقى معلومات إضافية، نحن منفتحون دائما. نحن لا نخفى أى شيء، لكننا نريد معرفة الحقيقة». ولم يكن ذلك سوى محاولة من جانب لوكاشينكو للحد من درجة التوتر، وتحسبا لرد فعل الرئيس بوتين الذى التزم الصمت طوال فترة احتدام الأزمة. وكانت الخارجية الروسية اكتفت أيضاً بما أعلنته ماريا زاخاروفا الناطقة الرسمية باسم الوزارة حول أن موسكو لن تسمح بأن يتعرض أى من مواطنيها المعتقلين لدى بيلاروسيا للإساءة، فى تحذير واضح من مغبة أى خطوة تجاه تسليم أى من مواطنيها الى أوكرانيا. وأضافت على صفحتها فى مواقع التواصل الاجتماعى «أن لوكاشينكو «سياسى مخضرم، ليست هذه هى المرة الأولى التى يجرى فيها انتخابات، وأنه محق فى أن العلاقات الأخوية بين شعبى البلدين لا تخضع لمصالح مؤقتة انتهازية، بما فى ذلك المصالح الانتخابية». على أن ذلك كله لم يحل دون احتدام الأزمة، فى توقيت دفعت فيه أوكرانيا بكتائبها الإعلامية وفى المقدمة منها دميتري جوردون الصحفى الأوكرانى المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الأجهزة الأمنية الأوكرانية والغربية، والذى حاول جاهدا دفع لوكاشينكو إلى الانزلاق صوب تشويه سياسات روسيا والكشف عن سلبياتها.  ونجح جوردون فى توريط لوكاشينكو باعترافات تحمل طابع العداء لروسيا، بعد أن كانت الولايات المتحدة حققت بعض التقارب مع بيلاروسيا لاستمالتها بعيدا عن الفلك الروسي، وهو ما كانت موسكو حذرت منه فى حينه. وكشف لوكاشينكو عن محاولات مماثلة بذلها خافيير سولانا الأمين العام الاسبق للحلف الناتو حين فاتح لوكاشينكو في عدم اعتراف بيلاروسيا باستقلال أوسيتيا الجنوبية عقب الحرب التى اشتعلت بين روسيا وجورجيا فى أغسطس 2008، خشية اندفاع بقية بلدان الكومنولث لتحذو حذو بيلاروسيا. وهكذا تواصلت اللقاءات والمماحكات التى كانت وتيرتها تتزايد فى اتجاه التقارب مع الغرب، كلما تشددت روسيا فى علاقاتها الاقتصادية مع بيلاروسيا. وفى هذا الصدد نقل جوردون عن لوكاشينكو تصريحه حول أنه وذات يوم أغرق فى انتقاد روسيا، ليفاجأ بدعوة بوتين إليه فى سوتشى ليعلنه وبعد حوار دام لست ساعات بقراره حول تقديم مختلف المساعدات لبيلاروسيا فضلا عن تلبية كل احتياجاتها من الطاقة بأسعار مخفضة.

ومن هذا المنظور، تصاعدت الأحداث وتطورت، على وقع تصاعد الحملات الإعلامية التى انضمت اليها الأجهزة الأمنية والقيادة السياسية فى أوكرانيا، بمشاركة مباشرة من الرئيس فلاديمير زيلينسكى الذى خاطب لوكاشينكو أكثر من مرة من أجل تسليم 28 من المحتجزين الروس لدى بيلاروسيا بتهمة مشاركتهم فى الحرب فى جنوب شرق أوكرانيا. ولم يمض من الزمن الكثير حتى كشفت «كومسومولسكايا برافدا» الصحيفة الروسية الأوسع انتشاراً، وبمساعدة مباشرة فى أغلب الظن من أجهزة روسية بعينها، عن الكثير من مفردات مخطط الأجهزة الأمنية الأوكرانية.  

وكانت موسكو قد خرجت عن صمتها، لتعترف على لسان دميترى بيسكوف الناطق الرسمى باسم الكرملين حول أن «الموقوفين» فى بيلاروسيا موظفون فى شركة أمنية خاصة، وتأخروا عن طائرتهم فى مينسك وكانوا ينتظرون المغادرة، ولديهم تذاكر سفر إلى اسطنبول. كما اعترف دميترى ميزينتسيف سفير موسكو فى بيلاروسيا بأن المعتقلين الروس من أعضاء مجموعة «فاجنر» للحراسات الخاصة التى تتولى حماية وتأمين المؤسسات النفطية والاقتصادية الروسية فى الخارج. وقال إنه كان من المقرر أن يغادروا مينسك فى 25 يوليو الماضى إلى تركيا ومنها إلى بلد ثالث. وبدا واضحا أن هناك من الحلقات ما تجهله موسكو فى تلك اللحظة، وأنها تعكف على دراسة الموقف والبحث عن الحلقات المفقودة لاستيضاح بقية جوانب الصورة، وحتى خلصت فى نهاية المطاف إلى ما كشفت عنه «كومسومولسكايا برافدا» حول أن جهاز الأمن الاوكرانى دبًر مكيدة «تجنيد» عدد من أعضاء مجموعة «فاجنر» المسلحة للحراسات الخاصة. لكنها لم تكشف صراحة عن أن ذلك جرى عن طريق اختراق «فاجنر»، من خلال إغراءات المال والعلاقات الشخصية ببعض قيادات هذه المجموعة، لدعوة أكبر عدد منهم ممن كانوا شاركوا فى المعارك فى جنوب شرق أوكرانيا إلى جانب مواطنى منطقة الدونباس التى أعلنت الانفصال عن أوكرانيا منذ عام 2014، إلى السفر إلى بيلاروسيا فى طريقهم إلى بلد ثالث قد تكون فنزويلا أو ليبيا. لكنها كشفت عن دور وسطاء زعموا أنهم يمثلون شركة «روس نفط» الروسية، فى تحرير عقود «وهمية» واستخراج تذاكر سفر من مينسك إلى اسطنبول، لإضفاء المزيد من المصداقية على «حقيقة المهمة». وقالت أنه ما أن وصل أعضاء مجموعة فاجنر إلى مينسك، حتى أعلنوهم أنهم سوف يقضون بعض الوقت فى مينسك، انتظارا للطائرة التى سوف تقلهم إلى اسطنبول، فى نفس الوقت الذى قام فيه رجال المخابرات الأوكرانية بإبلاغ الجانب البيلاروسى بوصولهم إلى بيلاروسيا فى مهمة تخريبية ابان الانتخابات الرئاسية، وهو ما أعقبه اعتقال كل أعضاء المجموعة وانتزاع اعترافاتهم التى لم يكشف عنها بعد أى من الجانبين. ولم تكتف الأجهزة الأوكرانية بذلك، بل مضت إلى ما هو أبعد من خلال اتصالات الرئيس الاوكرانى زيلينسكى بنظيره البيلاروسى يطالبه فيها بتسليم أوكرانيا 28 من هؤلاء المحتجزين، بحجة أنهم متورطون فى القتال وارتكاب جرائم قتل فى معارك الدونباس، وهو ما رفضه لوكاشينكو مؤكدا ضرورة إبداء القرائن والأدلة على اتهامهم.

وكشفت صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» فى تقريرها الذى نشرته مؤخرا عن وقوف جهاز الأمن الاوكرانى وراء تدبير مخطط إرسال «المرتزقة الروس» إلى بيلاروسيا، ونشرت صورا للوثائق والعقود الوهمية بما فيها صور تذاكر السفر الصادرة عن شركة سياحة أوكرانية فى كييف، فى توقيت مواكب لفضح الكثير مما كان وراء إقناع لوكاشينكو بالإدلاء بحديث صحفى الي دميترى جوردون الصحفى الاوكرانى المثير للجدل. وكان الجانب الأوكرانى حاول التلاعب بفقرات من ذلك الحديث وإذاعة مضمونها خارج تسلسل سياقها، لخدمة الأهداف الأوكرانية وضرب العلاقات بين روسيا وبيلاروسيا. على أن ذلك لم يأت بثماره المطلوبة، بقدر ما كان فرصة استغلها لوكاشينكو لإرسال ما هو أشبه برسالة اعتذار غير مباشر إلى بوتين. ورغم تكرار محاولات الصحفى الأوكرانى للإيقاع بلوكاشينكو فى شرك المزيد من الهجوم ضد روسيا، فقد نجح رئيس بيلاروسيا فى التخفيف من حدة هجماته السابقة، من خلال ما أعرب عنه من تقديره للرئيس بوتين الذى وصفه بالشقيق الأكبر الذى لا يكبره سنا وحسب، بل وقدراً ووزناً، على حد تعبيره.  

ورغما عن كل ذلك، فلا أحد يستطيع بعد أن يقول بانقشاع كل غيوم الخلافات بين البلدين، رغم المكالمة الهاتفية بين بوتين ولوكاشينكو وما أعقبها من رسالة خطية بعث بها بوتين إلى نظيره البيلاروسي، كانتا مقدمة لمكالمة هاتفية بين وزيرى خارجيتهما تناولت مختلف جوانب الموقف وما يتعلق بالإفراج عن المحتجزين، فى توقيت مواكب لاستمرار مظاهرات الاحتجاج التى خرجت إلى شوارع بيلاروسيا عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية التى فاز بها لوكاشينكو بأغلبية ساحقة تتجاوز 80% من أصوات الناخبين.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق