رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

رسالة مصر

أحد الأسباب الرئيسية لحالة الضياع الاستراتيجى التى يعيشها العالم العربى يتمثل فى انشطار مرجعيته الثقافية بين الحداثة والتقليد، على نحو يثير الخلل فى بنية وعيه، والاضطراب فى حركة سيره. فمن جانب صارت التقاليد الكبرى المؤسسة لتاريخه بعيدة عن حاضره، ساكنة فى كهوف الزمن العتيق يصعب استعادتها والعيش من خلالها إلا بثمن فادح. من ناحية أخرى استمرت التقاليد الحديثة غريبة عنه، فهى أصلا ليست من صنعه، ولم تكن قد ترسخت لديه عندما احتله الغرب الأوروبى باسمها، فأثار مخاوفه منها وتردده إزاءها، ولذا ظلت محض قشور على سطح وعيه قابلة للنفي، وعلى هامش وجوده قابلة للشك، وهكذا وقف العرب حائرين بين تراث غير قابل للاستعادة، وحداثة عصية على الترويض.

لم يكن هذا الانقسام، الذى استغرق الجدل حوله مشروعات فكرية كبري، واستهلك البحث فى كيفية رتقه جهود مفكرين عرب كثر، مجرد قضية نظرية، بل تحد واقعى نجح فى تمزيق بنية المجتمعات العربية على وجه الدقة لا المجاز، فلم تعد هناك كتلة تاريخية تتسم بالانسجام والتجانس تتحرك بثقة على دروب التاريخ، بل كتلتان: حديثة، وتقليدية، متصادمتان دائما على جميع الأصعدة. وبينما استمرت الكتلة الحديثة تفسر مشكلات الأمة: تخلفها الحضارى وضعفها السياسى وهزائمها العسكرية، بالقصور فى إجراءات التحديث على منوال التطوير العلمي، والتحرر الثقافي، والتفتح السياسي، وواقعية الرؤية التاريخية، فقد بررت الكتلة التقليدية تلك المشكلات بالبعد عن شرع الله، وعدم إقامة الحكم الإسلامي، ومن ثم فالحل كان بسيطا، مجرد التمرد على السلطات القائمة ومرجعيتها الحديثة (المأزومة والمغتربة) واستبدالها بأخرى إسلامية (أصيلة وفعالة) تثير الهمة فى مواجهة العدو بشجاعة أكبر وحماسة أعلي، وبالطبع لم يكن العدو هو التخلف الحضارى الساحق بل الغرب اللعين. وهكذا نشأت بين الكتلتين حالة توازن فيزيائى يندر وجودها فى المجتمعات الحية، تقوم على التماثل فى القوة، والتضاد فى الاتجاه على نحو أفقد المجتمع العربى حس الاتجاه الرئيس أمام عمق الانقسام وجذريته، فلم يعد هناك تيار عريض يتدفق على طريق التقدم ولو كان ثمة هامش معاند له، بل تياران متعاكسان يعطلان بعضهما البعض، ويصنعان الركود التاريخى الذى يحيطنا. اتخذ هذا الانقسام أشكالا سياسية عدة من قبيل التقدمية والرجعية، محورى الاعتدال والمقاومة، فتح وحركة حماس. أما الصيغة البنيوية له فتجسدت فى الصراع الأيديولوجى الذى دارت وقائعه معظم سنوات القرن العشرين بين القومية العربية كتجسيد للمرجعية الحديثة فى نزعتها التوفيقية، والإسلام السياسى كتجسيد للمرجعية التقليدية فى نزعتها الحركية. داخل هذا الصراع وعبر كل مراحله تنكرت كل مرجعية للأخري، بل تنكرت كلتاهما للدولة الوطنية القائمة فعلا، باعتبارها مجرد كيان قطري/ استعماري، محض خيانة سواء للمشروع القومى أو الأممية الإسلامية. أخفق التيار القومى فى قيادة المجتمعات العربية حينما حول تصوره عن الهوية الثقافية إلى أيديولوجية سياسية مقتحمة حاولت فرض نفسها على الآخرين، فكان الاشتباك بين النظم التقدمية والنظم الرجعية. كما كانت الانشقاقات داخل المعسكر التقدمى نفسه، بل داخل حزب البعث ذاته بين سوريا والعراق. وفى المقابل فشل الإسلام السياسى عبر أربعة عقود فى وراثة الفكرة القومية، فلم يتمكن من بلورة معارضة عقلانية لنظم الحكم القائمة قبل الربيع العربي، أو من الحلول محلها فيما بعده، اللهم على سبيل الاستثناء، وعبر تجارب جد قصيرة وفاشلة. لقد فشلت الموجة القومية إذن، خصوصا الناصرية، كما فشلت الموجة الإسلاموية خصوصا الإخوانية، ولكن داخل هذا الفشل العام ثمة تناقض هائل فى التفاصيل بين طرائق التدخل، ونمط الانتشار، وطبيعة التحالفات الإقليمية ونمط الارتباط بمراكز النفوذ العالمي. لقد تميزت الموجة القومية/ الناصرية ليس فقط بالحداثة الثقافية، بل أيضا بمركزية الحس الوطني، وروح العدالة الاجتماعية، ونزعة التحرر الإنساني. أما الموجة الإسلاموية/ الإخوانية فمالت إلى مهادنة الاستعمار بل تحالفت معه: بريطانيا ثم الولايات المتحدة، ولم تنشغل بقضية العدالة الاجتماعية، أو التحرر الوطني. وأخيرا تعاملت مع الحداثة بمنطق انتهازى يقبل ابتكاراتها العلمية والتقنية ويرفض المبادئ العقلانية والتحررية التى تقف وراء تلك الابتكارات. ومن ثم فالموجتان غير متعادلتين إطلاقا فى التقييم التاريخي، ورغم ذلك يظل المغزى قائما: وهو أن التطرف فى الأدلجة، والتعالى على الدولة الوطنية، قادا إلى الممانعة ثم الصدام معها، على نحو أفضى إلى الهزيمة والتراجع إن عاجلا أو آجلا.

لقد آن الأوان لأن تتصالح مجتمعاتنا مع نفسها وأن ترمم كتلتها التاريخية عبر المصالحة بين المرجعيتين، وهى الرسالة التى لا يستطيع النهوض بها سوى مصر على وجه التحديد واليقين لأسباب كثيرة، شرط أن تكون مصر الجديدة، النموذج المشع كما تحدثنا عنه الأسبوع الماضي، الذى تمكن من استيعاب أطيافه هو نفسه، قبل أن يتقدم لمساعدة الآخرين فى استيعاب تنوعاتهم القومية والعرقية والدينية والمذهبية. رسالة المصالحة هذه لابد أن تتأسس على قاعدة العروبة، ولكن كهوية ثقافية جامعة ومتفتحة تحترم الدولة الوطنية القائمة أيا كان شكلها، ورغم ذلك يترتب عليها التزامات تتبلور فى التضامن والتكتل مع الشقيق كى لا تكون هوية خاملة، على أن تبقى تلك الالتزامات فى حدود الممكن لى وما يطلبه هو. وكذلك على قاعدة الإسلام ولكنه الإسلام الحضارى بقيمه السمحة، الحاضنة لممكنات التعددية العرقية والاختلاف المذهبي، وليس الإسلام السياسى ذو الطبيعة الأيديولوجية المنغلقة، والنزعة الاقصائية، التى أثارت فتنا طائفية ومذهبية، جعلته خنجرا فى خصر اجتماعنا المتمدين، ما يفرض على المرجعية الإسلامية التنازل عن نزعتها الجهادية بيقين، وروحها الطائفية بالطبع، ومشروعها السياسى بالكلية، والقبول بالدولة الوطنية كحقيقة قائمة، وبنمط معتدل من العلمانية، يتم بمقتضاه علمنة السلطة دون الأخلاق، والفصل التحكمى بين مجال عام سياسى محايد بين الأديان، ومجال شخصى يقبل بممارسة المعتقدات الدينية، ما يعنى الاكتفاء بالتعبير عن نفسها عبر المكون القيمى والرمزى والروحي، الذى يحفظ للشخصية الإنسانية تماسكها وتوازنها. هذه هى الرسالة، فكيف يمكن لمصر النهوض بها؟ .

[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: