استعادت الجزائر مؤخرا رفات 24 من قادة المقاومة الشعبية الذين قتلوا خلال سنوات الاستعمار الفرنسي، ظلت هياكلهم محفوظة لعقود فى متحف الإنسان التابع للمتحف الوطنى للتاريخ الطبيعى فى باريس، وقد نظر العالم أجمع إلى بشاعة القتل ونقل الجثامين كأحد أكثر الأفعال وحشية عبر التاريخ، واعتبرتها الإنسانية وصمة وصفعة على وجه الحضارة الفرنسية التى تدعو إلى الحرية، لذا سارعت فرنسا بالاعتذار واثبات حسن النية بإعادة رفات القادة إلى الجزائر فى احتفالية شهد لها العالم بالتحضر.
.......................
لم تكن هذه هى الواقعة الأولى التى أزاحت الستار عن خفايا ووحشية الدول الاستعمارية فى إفريقيا، فحتى يومنا هذا لا تزال متاحف برلين تحتفظ بجماجم وعظام العديد من الأفارقة الذين قتلوا فى المستعمرات الألمانية .. وبعد مرور أكثر من مئة عام على المجازر الألمانية فى الدول الإفريقية، بدأت برلين تعيد حساباتها السياسية والاقتصادية مع القارة حيث بدأت بإعادة بقايا بشرية لسكان قتلوا خلال عمليات إبادة جماعية فى ناميبيا أثناء فترة الاستعمار أى قبل ما يزيد على مائة عام. حيث قتل عشرات الآلاف من مواطنى قبيلتى «هيريرو وناما» خلال انتفاضتهم المناهضة للاستعمار وردا على استغلال الألمان لأراضيهم وماشيتهم¡ فأصدر «لوثار فون تروثا»، الحاكم العسكرى بجنوب غرب أفريقيا وقتها، أمرا بالإبادة الجماعية عام 1904. وحتى الآن لا يوجد رقم محدد لعدد لمن قتلوا، غير أن بعض التقديرات تشير إلى أنهم تجاوزوا 100 ألف شخص.. وبعد أن أقام ممثلون عن مجموعتى الهيريرو والناما الناميبيتين دعوى قضائية ضد ألمانيا بتهمة اقتراف الأخيرة جرائم إبادة بحق المجموعتين وردت برلين فى عام 2016 بأنها تعد ــ من حيث المبدأ ــ لتقديم اعتذار، ومنذ ذلك الحين تقدمت السياسة خطوة إلى الأمام نحو الاعتراف بالجرم الألماني، فوزارة الخارجية الألمانية لم تعد تتحاشى الإشارة إلى المجازر التى ارتكبتها قوات الاستعمار الألمانية فى حربها ضد «الهيريرو» بتسميتها إبادة جماعية وكان قد سبق ذلك فى سنة 2012 أن تقدم فرانك فالتر شتاينماير، بصفته رئيس كتلة الحزب الاشتراكى فى البرلمان بطلب من المعارضة بتسمية صريحة «للإبادة الجماعية»، أيضًا أظهر اليساريون والخُضر مساندتهم للضحايا حيث قدموا طلبات مُماثلة، انتهت بتسلم دول إفريقيا أول دفعة من رفات وبقايا جثث الثوار. وبفضل جهود النشطاء الناميبيين وداعميهم يتم إثارة القضية فى المحافل الدولية بين الحين والآخر، بينما فى باقى الدول الإفريقية التى استعمرتها ألمانيا وتعرض سكانها لإبادة جماعية ومنها تنزانيا والكاميرون ورواندا فالعلاقات بينهم تتسم بالهدوء نسبيًا على كلا الجانبين، حيث تراهن الدول الإفريقية على الحل السلمى فى المعالجة التاريخية للقضية، ويبدو أنها تتفادى المخاطرة بإلحاق الضرر بالتعاون الاقتصادى المشترك بينهم ذلك لأن كل البلاد خاضعة لتبعية اقتصادية للجمهورية الاتحادية رغم ما تعرضت له تلك البلاد من مجازر ونقل آلاف العظام ومئات الجماجم والعديد من البقايا البشرية إلى برلين فى بدايات القرن العشرين بعد أن أجبر ضباط ألمان نساء القتلى على نزع اللحم عن الجماجم بشظايا الزجاج، كى يتم إرسالها عبر البحر إلى ألمانيا لإجراء دراسات عرقية عليها من جانب علماء الأنثروبولوجيا، لا لشيء إلا لتبرير نظرية تفوق العرق الأوروبى وإلى الآن لا تزال المتاحف الألمانية تحتفظ بجماجم وعظام العديد من الأفارقة الذين قتلوا فى كل المستعمرات.
علاقات اقتصادية
بعدما كان الاقتراب من قضايا القارة السمراء خارج أجندة الحكومات الألمانية، بدأت برلين تخطو خطوات ثابتة ومحسوبة نحو إفريقيا، وأصبح واضحا أن ألمانيا ترغب وبشدة فى العودة إلى أحضان القارة التى فقدت أى علاقة بها بعد خسارتها جميع مستعمراتها عقب هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى .
واستمرارا فى طريق الدفع بقوة، التقى فى برلين كبار ممثلى البلدان الأفريقية والمنظمات والمؤسسات والشركات الألمانية، للمشاركة فى اجتماعات مجموعة العشرين وأفريقيا، التى أطلقتها الرئاسة عام 2017 على هامش اجتماعات المجموعة، بهدف دعم التنمية فى البلدان الإفريقية وجذب الاستثمارات إليها، غالبية البلاد المشاركة فى المؤتمر أعضاء فى مبادرة «الشراكة مع إفريقيا»، والفكرة الجوهرية التى تظهر خلف هذه المبادرات واللقاءات وأيضا التعاون هو العمل على تعزيز إفريقيا كموقع للاستثمار .
وتعهدت الحكومة الاتحادية لرؤساء دول وحكومات أفريقيا خلال قمة مجموعة العشرين للشراكة مع أفريقيا التى انعقدت فى برلين بتقديم مساعدات بقيمة 300 مليون يورو. كما وعدت ميركل بإنشاء صندوق بمليار يورو لدعم الاستثمارات فى أفريقيا وتأمينها.
علاقات تاريخية
كانت بداية علاقات ألمانيا مع إفريقيا خلال فترة التكالب الاستعمارى على القارة السمراء، فى نهايات القرن التاسع عشر، فحتى عام 1884 لم يكن لزلمانيا أية مستعمرات، بعد ذلك اندفعت الحكومة الألمانية والشعب الألمانى فى تيار الاستعمار.
والملاحظ أن نشاط الألمان الاستعمارى فى هذه الفترة، قام به كبار التجار والرأسماليين ورجال البعثات الدينية وليس الحكومة إذ أن الزعيم الألمانى بسمارك ظل زمنا طويلا يعارض السياسة الاستعمارية ويعمل على تجنب بلاده مشاكلها، ولكن لم يلبث أن تغير الوضع وانزلقت الحكومة فى تيار الاستعمار الذى لم يستمر لأكثر من 50 عاماً، وامتدت إمبراطورية المانيا الاستعمارية إلى توجو والكاميرون وناميبيا، إلى جانب بوروندى ورواندا والجزء البرّى من تنزانيا¡ قوبلت بالثورات والاضطرابات وعجزت الشركة الألمانية عن المواجهة واستنجدت بالحكومة التى عينت هيرمان فون وأمدته بقوة استطاعت مهاجمة الثوار وأجبرتهم على الانسحاب و لم تتوقف المقاومة. وانفجرت ثورة «الماجي» التى اعتبرت أكثر الحركات أهمية فى شرق أفريقيا، وثار الشعب الإفريقى ضد وسائل الألمان فى فرض الضرائب و نظام العمل الجماعى فى رصف الطرق و فى المزارع الأوربية وضد نظم الحكم المحلى . وعندما قامت الحرب العالمية الأولى شنت قوات الحلفاء هجوماً على المستعمرات الألمانية واحتلتها، وعندما هُزمت ألمانيا تقرر حرمانها من جميع مستعمراتها حيث كانت نهاية الحرب بمثابة تصفية للاستعمار الألمانى فى أفريقيا .
رابط دائم: