دفعنى سببان للكتابة عن خبطة صحفية أجراها الأهرام فى 26 و27 مايو من عام 1978. كان أستاذنا الكبير مكرم محمد أحمد صاحب المبادرة خلال زيارته لباريس حيث أعرب لى عن أهمية ترتيب حديث صحفى مع ناحوم جولدمان آخر حكماء صهيون.. وقد دعانى بصدر رحب للمشاركة فى هذه الخبطة.. السبب لعودتى إلى ذكريات الشباب هو تماثل الأستاذ الجليل للشفاء والسبب الثانى هو ان الوعكة الصحية التى تعرض الأستاذ مكرم تواكبت مع زيارة وزير الخارجية سامح شكرى إلى «رام الله» ومواصلة مصر جهودها من أجل استئناف مفاوضات السلام على أساس المرجعيات الدولية والمبادرة العربية للسلام.. ذلك السلام الذى اراده السادات شاملا وبددته أطراف عديدة وضربت الأخرى به عرض الحائط. وأعرب جولدمان عن امتنانه لهذه الفرصة التى أتاحت له ان يخاطب مباشرة العالم العربى لأول مرة وفى جريدة مهمة مثل الأهرام.. ومازال من الممكن استخلاص عدة أفكار من الحوار لإحياء القضية الفلسطينية بعد أن ذهبت مع الريح فى ظل تعنت إسرائيلى من قبل نيتانياهو وإدارة ترامب وقراراتها العجيبة.
أهم ما أباح لنا به الحكيم العجوز كيف أن جولدا مائير رفضت لقاء عبدالناصر بهدف ان يستمر الأمر الواقع الذى ترتب على حرب 67 إلى الأبد، وان قناعة العالم قد ازدادت بعد مبادرة السلام بحرص العرب على السلام، وأشار إلى أن عبدالناصر دعاه لزيارة القاهرة ولم تتم بسبب وفاته.. أبرز جولدمان انه أول من دعا إلى حوار عربى إسرائيلى وانه انتقد بشدة واتهم بالبلاهة.. والآن مئات الآلاف من الإسرائيليين على قناعة كاملة بأن السادات كان يريد السلام بالفعل، فضلا عن قناعة العالم كله بذلك. وأبرز آخر حكماء صهيون حيثيات أهمية مبادرة الرئيس السادات رحمه الله والتى كانت عاملا فى التحول الملحوظ بالموقف الأمريكى فى إدارات سابقة مشيرا إلى أن سياسة إسرائيل عربيا ظلت لمدة 30 عاما تتلخص فى فرض الأمر الواقع حتى يقبل العرب كل الشروط الإسرائيلية .. الحديث مع جولدمان يعتبر وثيقة تاريخية حيث شرح كيف كان بن جوريون على قناعة كاملة بضرورة إعادة كل الأراضى المحتلة بعد عام 1967 ماعدا القدس إلى العرب. أما بالنسبة للحكيم اليهودى فلقد أكد لنا انه لابد أن يكون للقدس جواز سفرها الخاص وان يماثل وضعها وضع الفاتيكان فى روما وفى رأيى لابد أن يراجع ترامب موقفه ازاء تكريس القدس عاصمة لإسرائيل وليته قرأ مؤلفات جولدمان «التناقض اليهودى» وإلى أين تذهب إسرائيل! ولكن للأسف هناك رؤساء عديدون فى العالم ليست لديهم أى ثقافة سياسية! فكيف يستطيعون ان يقودوا العالم.. أهمية هذا الحديث برغم التوقيت الزمنى الذى أجرى فيه يكمن فى انه أظهر ضعف موقف إسرائيل التى قال عنها جولدمان إنها فقدت الحس التاريخى للمستقبل.. وطالب جولدمان بأن تتوجه كل الجهود نحو تسوية شاملة للصراع العربى الإسرائيلى ويجب توظيف فكر الحكيم من أجل التوصل إلى حل منصف للقضية الفلسطينية وأنا على ثقة ان أمين عام جامعة الدول العربية السيد أحمد آبوالغيط على مقدرة أن يضخ دماً جديداً لمعالجة ركود النزاع الفلسطينى الإسرائيلى. شرح جولدمان أيضا أهمية إزالة المستوطنات ووصفها بأنها غير ضرورية لأمن إسرائيل.. وقال انه تبين أن مصر كانت لا تريد سلاما منفصلا مشيرا إلى أن انكار الوجود الفلسطينى تزوير للتاريخ وان عرفات ارتكب خطأ بالغا عندما أعلن رفض المنظمة المبادرة المصرية، ولو كان قبلها، لوضع بيجين وإسرائيل فى مأزق حقيقى. بعد سنتين من هذه الخبطة الصحفية أجرى الأستاذ مكرم حوارا آخر مع الحكيم اليهودى فى مايو 1985 ليطلق «نبوءات شبه أخيرة» حول الموقف فى إسرائيل.
تعلمت الكثير من هذه التجربة الصحفية وأدركت أن الأستاذ مكرم لايتمتع فقط بالمعرفة الموسوعية وإنما يمثل منظومة أخلاقية متكاملة حفظ الله المثقف الكبير مكرم محمد أحمد .
لمزيد من مقالات عائشة عبدالغفار رابط دائم: