الحديث عن العلاقات اليمنية المصرية لا تحكمها اللحظة فقط او مصالح عابرة بل هي حديث عن تاريخ وحضارة مشتركة ويمكن لأي مقال عن العلاقات السياسية ان يكون علميا ويستخدم لغة الأرقام الجافة ليكون مقنعا ومنطقيا إلا بما يخص علاقة اليمن بمصر فهي مزيج من علم التاريخ والمنطق وشغف المحبة وجموح العاطفة.
وإذا قيل لي اكتب بحثا في العلاقة التاريخية اليمنية المصرية والقواسم المشتركة فأقول الأمر يحتاج إلي شاعر وليس الي سياسي أو اقتصادي فقط فتلك علاقة من التواصل بين البلدين جعلت الجغرافيا وهما وتقارب المجتمع ليصبح مجتمعا في دولتين فأنت باليمن لا تحتاج إلي جهد لشرح اي شيء له علاقة بمصر، فالناس يعيشون تفاصيل مصر ثقافيا وسياسيا واجتماعيا كأنهم امتداد للصعيد او شط الإسكندرية. ويعرفون أخبار مصر وليالي الحلمية كأنهم جزء من نفس النسيج.
وتاريخيا منذ الفاطميين بمصر ودولة الصليحيين في اليمن وملكتهم اروي بنت احمد وهم امتداد واحد .وجاء صلاح الدين الأيوبي بالدولة الايوبية فكان امتدادها أعظم دولة يمنية حتي الآن وهي دولة الرسولييين في تعز وبقيت مائتي عام ورحل الايوبيون وبقي حب مصر حاضرا بالدولة الرسولية وآثارها العظيمة من مساجد واضرحة وقباب مساجد في تعز وعدن وقد لا يعرف الكثير ان مؤسس أهم مدينة يمنية جامعة للصخب والحياة في اليمن اي مدينة تعز هو شقيق صلاح الدين نفسه.
وذهب الحكام وبقيت الشعوب وثقافتها ومزاجها الفني والأدبي (والجيم المصرية) التي تسمعها في لهجات النطق بكل القاهرة ومعظم اليمن. وعندما تضيق الامور باليمنيين يذهبون إلي مصر للعلاج والسياحة والدراسة والتفكير في المستقبل. ولا ينسي اي يمني تضحيات مصر العربية في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 والرابع عشر من أكتوبر 1963. جاء عبد الناصر إلي اليمن وما احتاج إلي حماية عسكرية وهو يخطب من مقر القيادة العربية في تعز أبريل 1964، فقد كان مطوقا بقلوب ملايين اليمنيين الذين حملوا سيارته لحبهم وليس فقط لغياب الاسفلت، قال عبدالناصر يومها قولته الشهيرة: علي بريطانيا ان تحمل عصاها وترحل.. وفعلا رحلت حيث كان الاستعمار البريطاني جاثما علي الشطر الجنوبي من الوطن اليمني. وبقيت مصر حاضرة بجيشها الأكبر من معلمين وأطباء وصيادلة وإدارات مختلفة . ومن الصور الثابتة في الذهنية اليمنية انه في كل قرية يمنية لابد ان تجد مدرسة ومعلما مصرياوفي كل مدينة يسمي اليمنيون شارع (القاهرة) وجمال عبدالناصر. وانا من قرية معلقة بالجبال كان يقولون لي عندما تكبر أذهب إلي القاهرة بلاد ناصر, وهذا ما حدث مع معظم جيلي وجيل أبنائي الآن. وفي ذهن امهاتنا ان مصر هذه في الجبل الخلفي لبلدتنا لقرب مصر من قلوب اليمنيين.
ولم تخذلنا مصر يوما رغم تعبها الاقتصادي تقاسمت معنا اللقمة والوجع وفتحت مدارسها وجامعاتها لنا طيلة ثمانية عقود فمنذ الثلاثينيات وبعثاتنا في مصر لا تعاني الغربة والناس مثلا لا تعرف ان الأديب علي احمد باكثير صاحب (واإسلاماه) وغيرها من الروائع يمني حضرمي بل هو معروف كمصري وقد جاءها طالبا يمنيا فاحتضنته مبدعا عربيا لا عقد في الهوية وجواز السفر, وان قصيدة العبور المقررة علي طلاب مصر للشاعر عبد العزيز المقالح شاعر اليمن الكبير وعاشق مصر الأكبر.
وان وراء كل حجر في الدقي وأرض اللواء يمنيا يعرف تفاصيل القاهرة اكثر من بطن كفه ولدي مقولة عن عشق اليمنيين لمصر في تشجيع كرة القدم حيث معظمهم ينتمي للزمالك ويشجع الأهلي! تلك كيمياء لا يعرفها إلا من ذاب في تفاصيل المجتمع. وان الكابتن علي محسن مريسي نجم الخمسينيات والستينيات في الكرة المصرية عبقري يمني احتضنته مصر فصار نجم منتخبها.
هذا الفراغ في العلاقات العربية العربية بحاجة الي مصر والعودة إلي مشروع عربي يخلق توازنا بالمنطقة في مواجهة المشروعات الإقليمية الأخري, بحاجة إلي تفعيل الجامعة العربية كإطار إقليمي والي مصر الدولة المرجّحة لأي استقرار منشود. وبما يخص اليمن واستقراره فإن دور مصر محوري ومهم ليس فقط للعلاقات التاريخية العميقة ولكن لا ننسي أن مصر هي المحطة العربية الأولي المفتوح ابوابها امام اليمنيين في هذه الضائقة التي يمر بها اليمن وثاني اكبر تجمع لليمنيين خارج اليمن بعد السعودية هو في مصر فقبلة السفر الأولي لملايين اليمنيين هي القاهرة والداعم المجتمعي للمجتمع اليمني في تسهيل الدخول والمرور. وبالتالي فإن فتح قنوات التواصل وتسهيل الإجراءات وتعزيز التعاون مع مصر مطلب أساسي لليمن حتي يستقر ويصل إلي السلام وبر الأمان.
اما دور مصر في الدفع باستقرار اليمن وإعادة اعماره فهو حيوي ولا جدل فيه ..دور بارز في إعمار اليمن بمجالاته المختلفة والمتنوعة.
لمزيد من مقالات عزالدين سعيد الأصبحى رابط دائم: