رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

لطيفة الزيات.. والحرية

الحرية هى كلمة السر فى سيرة لطيفة الزيات. وهى كلمة السر لأنها الأصل الذى نبعت منه السيرة وصاحبة السيرة. لكنها لم تبق سرا، وإنما تحولت إلى حياة صريحة معلنة عاشتها لطيفة الزيات وكتبتها بصور مختلفة. كتبتها فى أعمالها الإبداعية التى استوحتها من تجاربها الحية، وكتبتها فى سيرتها الذاتية التى أصدرتها بعنوان «أوراق شخصية».

وأنت تقرأ أى صفحة للطيفة الزيات فى الإبداع أو النقد، وفى الأدب والسياسة تجد أن كلمة الحرية هى النغمة الرئيسية التى يبدأ الكلام منها وينتهى إليها.

فى الفصل الذى كتبته عن تجربتها فى الكتابة ونشرته فى آخر سيرتها الذاتية تتردد كلمة الحرية نحو خمسين مرة فيما لا يزيد على اثنتى عشرة صفحة تبدؤها قائلة: «كانت الكتابة علي، تعدد مقاصدها، فعلا من أفعال الحرية ووسيلة من وسائلى لإعادة صياغة ذاتى ومجتمعي، وان تعددت فى الإطار أوجه الحرية التى مارستها فى الكتابة». وكما تتردد كلمة الحرية لتعبر عما تطلبه الكاتبة وتدافع عنه وتراه حقا طبيعيا وشرط وجود تكون به ولا تكون بدونه، تتردد فى المقال الكلمات التى تدل على العكس ومنها العبودية، والقهر، والقمع، والسجن، والترويض، والتخويف.

والحرية التى تناضل فى سبيلها لطيفة الزيات وتجعلها شعارا لها لا تطلبها لنفسها فحسب، بل تطلبها لنفسها ولغيرها، وتجعل حريتها شرطا لحرية المجتمع وحرية المجتمع شرطا لحريها، فالفرد لا يكون حرا فى وطن مستعبد، والوطن لا يكون حرا وابناؤه مستعبدون. وهذا هو الموضوع الذى عالجته فى عدد من أعمالها. هو الموضوع الذى عالجته فى عدد من أعمالها.

فى روايتها الأولى «الباب المفتوح» تصور هذه العلاقة الجدلية بين حرية الفرد وحرية المجتمع. المواطن الفرد يتنازل عن حريته لينخرط فى النضال الشعبى لتحرير الوطن، وحرية المواطن لا تتعارض مع حرية المجتمع وحرية الوطن.

بالعكس، حرية المواطن طاقة أخلاقية وحيوية تزود الوطن بمن يذودون عن حريته ويضحون فى سبيلها.

وحين نتذكر أن هذه الرواية صدرت عام 1960 ندرك أن لطيفة الزيات كانت ترد على الذين جعلوا النضال ضد الاستعمار فى ذلك الوقت حجة لفرض الطغيان والعدوان على حقوق الإنسان.

والحرية أيضا هى الموضوع الذى تدور حوله مجموعتها القصصية «الشيخوخة وقصص أخري» لكن الصراع فى هذه المجموعة يدور بين الفرد وذاته ليتخلص من حرية اكتشف أنها زائفة ويحقق لنفسه حرية حقيقية يطلبها من نفسه قبل أن يطلبها من غيره، ويفتش عنها فى سلوكه قبل أن يفتش عنها فى الواقع المحيط به. والحرية تكون وهما حين تصبح مبررا للعزلة، أو حين تكون عبثا لا طائل وراءه أو عدوانا على حقوق الآخرين. الحرية تحتاج لهذه المجاهدة ولهذا التطهر الذى يخلص الإنسان من أوهامه ويجعله حرا ومسئولا بقدر ما هو حر.

والحرية ليست امتيازا لطبقة أو فئة، ولكنها حق للجميع. ومن هنا كتبت لطيفة الزيات روايتها القصيرة «الرجل الذى عرف تهمته». والبطل فيها هو الفرد البسيط الذى يمثل الملايين ويتعرض للقهر بمختلف صوره، وكذلك نجد فى بقية أعمال لطيفة الزيات، مسرحيتها «بيع وشراء» وروايتها الأخيرة «صاحب البيت» التى أصدرتها عام 1994 قبل وفاتها بعامين.

هكذا نرى أن الحرية فى سيرة لطيفة الزيات ليست مجرد كلمة، ولكنها روح تتمثلها لطيفة الزيات فى نفسها وترى بها المجتمع والإنسان والتاريخ والحضارة والعالم. ومنذ أن نبدأ قراءة السيرة تهب علينا نسائم الحرية فى حديثها عن مدينتها دمياط بطابعها الخاص ونشاط أهلها وتقاليدهم الموروثة وعلاقتهم بالبحر، وعن بيتهم القديم فيها، وعن عائلتها جدها وجدتها، ووالدها واخوتها.. تتحدث عنهم وتتنقل بينهم بطلاقة ومحبة وحنين وقدرة على استدعاء التفاصيل. وهى تستدرجنا بصدقها وتلقائيتها وحضور شخصيتها لتفضى لنا بما تحب أن تفضى به من ذكريات، وتذهب فى ذلك إلى حد يختفى معه الفرق بين السيرة والرواية، أو بين ما تقوله لنا وما تقوله لنفسها، مستخدمة لغة حية بسيطة تستعين فيها بما يخطر لها من تعبيرات دارجة، تستحضر بها الجو وتصور الشخصية. «فى السطح أنطلق وأضحك وأغنى دون أن تحاصرنى اصداء ضحكى وغنائي. وحوائط البيت العتيق تردد صداها، ودون أن يسمع ضحكى وغنائى أحد فى البيت فيزجرنى. فى السطح أقفز وأنط الحبل، وقفزاتى تعلو الواحدة بعد الأخرى حتى يكاد رأسى يطاول السماء. ولا أحد يرانى أو ينهانى».

تلك هى لطيفة الزيات التى كانت حتى وهى طفلة مسكونة بالحرية تجد فى طلبها وتبحث عنها فى سطح بيتهم العتيق حتى تجدها فتضحك وتغني.

هنا ندرك أن الحرية ليست إلا تعبيرا عن حب الإنسان للحياة واقباله عليها، لأنه لا يستطيع أن ينال حقه فيها إلا وهو حر. فإذا كان نصيب الإنسان من الحرية قليلا فنصيبه من الحياة قليل. وإذا كان نصيب الرجل من هذا القليل محدودا فنصيب المرأة لا يكاد يذكر. من هنا نستطيع أن نقدر عمل لطيفة الزيات الذى لم يكن مجرد كتابة، وإنما كان حياة غنية لم تنس فيها حريتها لحظة واحدة ولم تكف فيها لحظة واحدة عن النضال فى سبيلها منذ كانت طفلة تلجأ إلى سطح البيت لتضحك وتغني.

لكن الطفلة التى كان عليها أن تنفرد بنفسها على سطح البيت لتنعم بالحرية لم تستطع أن تبقى طوال الوقت على سطح البيت. كان عليها أن تترك السطح لتعيش مع أسرتها وتتصل بالآخرين دون أن تتخلى عن حقها فى الحرية، وتلك هى المفارقة التى عاشتها طوال حياتها وهى طفلة وصبية وزوجة ومواطنة وكاتبة ومناضلة سياسية. أن تحلم وتعيش. تعيش فى الحلم، وتعيش فى الواقع. ولكى تظل وفية لحلمها دون أن تنفصل عن الواقع كان عليها أن تناضل طوال الوقت، تطلب الحرية لنفسها وتطلب الحرية للجميع.


لمزيد من مقالات ◀ بقلم. أحمد عبدالمعطى حجازى

رابط دائم: