رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

رؤيتى لـ «القرن الحادى والعشرين» (339) إعمال العقل

جاءت هذه العبارة فى نهاية مقال للكاتب والصحفى المرموق مفيد فوزى كان قد نشره فى المصرى اليوم بتاريخ 11/7/2020 تحت عنوان: رقم قومى 2020! وكان يقصد بهذه العبارة أنها نقطة اللقاء معى. والمطلوب بيان هذه العبارة التى تخصنى وهى إعمال العقل، وهى عبارة يمكن أن تكون إيجازا لمسار فكرى الفلسفى الذى يمكن اعتباره امتدادا لفكر الفيلسوف الألمانى كانط الذى يقف شامخا عند قمة عصر التنوير فى القرن الثامن عشر، وذلك فى مقاله المشهور والمنشور فى عام 1784 تحت عنوان: جواب عن سؤال: ما التنوير؟. وقد وردت فيه عبارة كن جريئا فى إعمال عقلك. والسؤال بعد ذلك: لماذا إعمال العقل فى حاجة إلى جرأة؟ وجواب كانط أن هذه الجرأة لازمة لأن إعمال العقل يستلزم التحرر من السلطة أيا كانت. وراح كانط بعد ذلك يعدد السلطات التى تكون مانعة من بزوغ هذه الجرأة. وأيا كان عددها فإن وظيفتها تخويف العقل من مجاوزة الحدود المتمثلة فيما أسميه المحرمات الثقافية وهى محرمات موروثة. ومن هنا يكون الموروث موضع نقد بالضرورة. ومن هنا أصدر كانط ثلاثة مؤلفات: نقد العقد الخالص، ونقد العقل العملى، ونقد الحكم، بالاضافة إلى كتابه المعنون «الدين فى حدود العقل وحده».

والسؤال بعد ذلك: ماذا كان يعنى كانط بمفهوم النقد؟ إنه يعنى به أن للعقل حدوداً يلزم عدم تجاوزها لأنه فى حالة تجاوزها يدخل العقل فيما يسميه كانط السُبات الدوجماطيقى، والذى يعنى الاعتقاد بحقيقة مطلقة تكبل العقل ومن ثم تمنعه من التطور. وقد ارتأيت أن هذه الدوجماطيقية شاعت وهيمنت ابتداء من الثلث الثانى من القرن العشرين وما تلاه من سنوات القرن الحادى والعشرين. حدث ذلك تحت مسمى الأصوليات الدينية التى لم يفلت منها دين من الأديان المهيمنة على كوكب الأرض. وقد لزم عن تغلغلها ظاهرة أخرى ملازمة لها وهى ظاهرة الإرهاب.

والسؤال اذن: لماذا التلازم؟ وجاء جوابى على النحو الآتى: لأن الأصوليات الدينية تتوهم كل واحدة منها أنها مالكة للحقيقة المطلقة. وحيث إن الحقيقة المطلقة واحدة فيلزم من ذلك أن أى أصولية أخرى تزعم أنها مالكة لحقيقة مطلقة تكون معادية بالضرورة إلى حد محاولة الإجهاز عليها من أجل التخلص منها وذلك بتكفيرها فى البداية وإن عاندت فقتلها لازم. ومن هنا أيضا يمكن القول إنه إذا أردنا القضاء على هذا التلازم فيلزم مواجهة الأصولية الدينية باعتبارها مصدر الإرهاب. والسؤال بعد ذلك: كيف يتم ذلك؟ للجواب عن هذا السؤال يلزم الكشف عن جذر الأصولية، وهو كامن فى الالتزام بالمعنى الحرفى للنص الدينى أو بالأدق بالمعنى الحسى مع تجاهل أى معنى باطنى يمكن أن يتجاوز ما هو حسى. وفى هذا السياق يمكن القول إن النص الدينى له معنيان: ظاهر وباطن. الظاهر مدرك بالحس والباطن مدرك بالعقل. وفى هذا السياق أيضا فطن ابن رشد إلى مفهوم التأويل الذى هو فى رأيه مجاوزة الدلالة الحسية للفظ إلى دلالته المجازية. ثم أضاف قائلا إنه مع التأويل لا إجماع بحكم أنه متعدد، ومع التأويل لا تكفير بحكم أنه إعمال للعقل والعقل قوة معرفية نسبية ليس فى إمكانها قنص الحقيقة المطلقة. وهذا الموجز لفكر ابن رشد انتقل إلى أوروبا فى القرن الثالث عشر لتحرير العقل من السلطة الدينية التى كانت متحالفة مع النظام الإقطاعى. وقد تم هذا الانتقال على هيئة تيار اسمه الرشدية اللاتينية ومن هنا كانت نقطة البداية التى انتقلت فى اتجاه الإصلاح الدينى فى القرن السادس عشر إلى التنوير فى القرن الثامن عشر. والمغزى أنه لم يكن ثمة تنوير فى أوروبا من غير الرشدية اللاتينية. وفى عبارة أخرى أكثر جرأة: لولا ابن رشد ما كان كانط. أما فى العالم الاسلامى فقد أُجهض ابن رشد إذ كُفر وأُحرقت مؤلفاته ونُفى إلى قريته أليسانة باسبانيا. ومن هنا أعلنتُ مفارقة ابن رشد فى المؤتمر الفلسفى الاسلامى الأول الذى عقدته فى القاهرة فى عام 1979 تحت عنوان: الاسلام والحضارة ومفاد هذه المفارقة أن ابن رشد ميت فى الشرق حى فى الغرب. والمفارقة هنا أيضا أن المستشرقين الغربيين الذين كانوا مشاركين فى ذلك المؤتمر أجمعوا على رفض المفارقة واتهمونى بأن لدى سوء طوية ونزعة أيديولوجية سيئة وذلك بدعوى أن ابن رشد فقيه لا علاقة له بالتنوير بل تمادوا فى القول إن العالم الاسلامى فى حاجة إلى التصوف وليس إلى الفلسفة. والمغزى فى هذا القول إن إعمال العقل ليس مرغوبا فيه لأن إعمال الذوق الذى هو ملكة المتصوف هو البديل عن إعمال العقل. وتكون النتيجة الحتمية صراعا بين الحضارتين الأوروبية والاسلامية. وهذا هو الحادث الآن ليس فقط على مستوى الشرق الأوسط، بل على مستوى كوكب الأرض. وليس من مخرج لهذا الصراع سوى إعمال العقل.


لمزيد من مقالات د. مراد وهبة

رابط دائم: