رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الطبقة الوسطى... ماذا يحدث فى الوسط؟

حاولت فى المقال السابق أن ألقى بعض الضوء على التغيرات التى تحدث فى قمة الطبقة الوسطي، وانتقل فى هذا المقال إلى أسفل قليلاً على السلم الاجتماعى لهذه الطبقة عند منتصفها أو وسطها. نحن هنا بصدد فئات أعرض من البشر الذين يشغلون أوضاعهم الطبقية الوسطية بناء على مهاراتهم فى ممارسة مهن متخصصة فى مجالات الطب والهندسة والقانون والتعليم وإدارة الأعمال ونظم الاتصال وغيرها من المجالات المهنية، بجانب أولئك الذين ينخرطون فى أعمال خاصة ذات طابع تجارى أو إنتاجى برؤوس أموال متوسطة.

وتشهد هذه الفئة الوسيطة تغيرات من نوع مختلف؛ نرصد بعضها عبر المشاهدات التالية: التركيز الشديد على قضية تعليم الأبناء، والتسابق على كليات القمة؛ ويرتبط بذلك إرسال الأولاد والبنات للتعليم فى جامعات أوروبية وأمريكية وكندية، بل إن البعض يرسل الأبناء إلى الخارج فى سن أقل ليبدأ تعليمه الثانوى من هناك؛ ويخلق هذا التوجه بدوره توجهاً نحو الهجرة الشبابية إلى هذه البلدان لمواصلة الدراسات العليا أو العمل أو كليهما، وهى هجرة تنتهى بالإقامة الدائمة هناك وعدم العودة إلى مصر إلا فى زيارات متقطعة؛ وثمة مشاهدة رابعة تتعلق بالتنافس على إلحاق الاولاد بالوظائف الحكومية المرموقة وهو تنافس يرتبط بتنافس مناظر لدى الآباء والأمهات للالتحاق بالوظائف الهامة ذات الطابع الإدارى أو السياسي، أو حتى اللجان التى لها علاقة ما بالدولة؛ وأخيراً يمكن الإشارة إلى الولع الشديد لدى أبناء هذه الشريحة بإنفاق معظم المدخرات المتبقية من الإنفاق على التعليم فى شراء العقارات، والمبالغة فى أداء الحج والعمرة، وفى نشر ثقافة الاحسان.

ورغم أن هذه المشاهدات قد تبدو طبيعية، إلا أنها تؤشر على تغيرات عميقة فى بنية الطبقة الوسطى بعامة وفى هذه الشريحة بخاصة. ونحن بحاجة إلى أن نتأمل بعمق فيها لكى ندرك طبيعة التحولات التى تتفاعل فى التكوين الاجتماعى والثقافى للمجتمع. ويجب أن نقر بادئ بدء أن هذه الشريحة الوسطى تشكل أهم مكونات الطبقة الوسطي، وهى العمود الفقرى لها، لا لأنها مكنز الخبرة والمهارة والمعرفة فقط، بل أيضاً لأنها تمسك بحكم دورها الإدارى والتقنى بعصب الإدارة والحوكمة فى المجتمع والتوجيه الجماهيرى عبر سيطرتها على إدارة الاعلام. وتمنح هذه المواقع الإدارية الشريحة الوسطى قدرة أكبر على التأثير وعلى نشر قيمها واختراعاتها السلوكية والثقافية، (وإلا فمن الذى اخترع فكرة القمة والقاع فى التعليم، والدروس الخصوصية، ومن الذى عمق البعد التجارى فى العملية التعليمية لا، بل من الذى اخترع كل هذه الطقوس ذات الأبعاد الرمزية التى تراها فى أفراح هذه الشريحة وفى أتراحها).

وإذا كان لهذه الشريحة رموزها الثقافية الخاصة واهتماماتها الخاصة، إلا أن ذاتها الطبقية تأوى دائماُ إلى خارجها، فتصبح أدوات المقارنة بين الأنا والآخر حاضرة فى ثقافة الشريحة. ثمة إطار معيارى يتحدد فى ضوء الطموح ونظم التنشئة الاجتماعية السائدة. وعند التعمق فى هذا الإطار فإننا قد نكتشف أن هذه الشريحة لا تجتمع على رؤية واحدة، بل إن ثقافتها تتمزق من الداخل حسب المقصد الذى تتجه الذات الطبقية إلى إيواء نفسها فيه، والذى يتحدد بدوره فى ضوء المصادر المادية للشريحة، مع الاعتراف بطبيعة الحال بصور من التداخل الثقافى عبر الحدود الداخلية الفاصلة بين الفئات المختلفة. فعلى قمة الشريحة تتكون ميول نحو الإيواء لدى الفوق؛ فتظهر صور من التقليد لأساليب الحياة عند قمة الطبقة، بما فى ذلك السعى نحو أنماط معينة من السكن، وأنماط معينة من الاستهلاك. وعندما يتعمق الجانب المهنى والمهارى تظهر اهتمامات نحو إيواء الذات الطبقية خارج البلاد فى الدول الغنية المتقدمة تكنولوجياً حيث يجد الأولاد فرصاً أفضل للتعليم والعمل وتأمين المستقبل؛ وعند قاع الشريحة ومع التلامس مع قاع الطبقة الوسطى من أعلى تظهر اهتمامات مغايرة تلتف حول شبق الوظيفة العامة فى الدولة، يدفعون إليها أنفسهم ويدفعون أولادهم خلفهم. ويشير هذا الوصف إلى وجود قدر من التشرذم الثقافى داخل هذه الشريحة الوسطي، وهو تشرذم يفقد الشريحة رؤيتها العامة ويفتت سمتها أو وسطها المعيشى الفكرى.

وفى الوقت الذى تتشكل فيه الاهتمامات والطموحات وأشكال إيواء الذات الطبقية لهذه الشريحة، فإن سلوكها وأساليب حياتها ورؤيتها للعالم يعكس موقفاً وسلوكاً مختلفاُ مع هذا التخارج المتشظي، وهو ينعكس فى الميل الشديد نحو الانكفاء على الذات، وإعلاء المصالح الفردية على المصالح العمومية، وعدم النظر فيما هو أبعد وأشمل، والتركيز الشديد على كل ما يتعلق بالذات أو الأسرة. فى هذا السياق يضمحل رأس المال الاجتماعي، وتصبح الثقة فى أدنى حدودها، حيث الانا تتفوق على النحن، وحيث تنفصل «الذات» عن «الموضوع». ولا تنحصر المشكلة هنا فى حالة الاغتراب عن العام والانغماس الشديد فى المشكلات الفردية والذاتية فقط؛ بل تتعدى ذلك إلى إمكانية أن نتحدث عن مشكلة فى نمط الوجود ذاته، ذلك الوجود الذى يتحول إلى وجود منغلق الرؤية، ضيق الأفق، يبحث عما يقيم الاستقرار والتميز وما يضمن للأولاد مستقبلاً مأموناً وسكناً مستقراً فى الحياة. أود أن أشير هنا إلى ما أطلق عليه «تحويل أهداف الحياة» لدى الشريحة المهنية، بحيث تزاور عن العام من ناحية وعن المهنة من ناحية أخري. فالعام لا يدرك إلا فى إطار المصلحة المحققة، والمهنة هى وسيلة للحصول على المال أو المناصب السياسية والإدارية، أما تطويرها والعيش فى كنفها ومن أجلها فليس له معني، إلا لدى فئة قليلة جداً ممن يعيشون على هامش هذه الشريحة. وعند هذا الحد فإننى أشعر بأن التأمل لم يكتمل، وأن أسئلة أخرى يجب أن تثار حول الطريقة التى يتشكل بها رأس المال الاجتماعى داخل هذه الشريحة.


لمزيد من مقالات د.أحمد زايد

رابط دائم: