رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

آيا صوفيا والحلم العثمانى

فى ذكرى توقيع اتفاقية لوزان الموافق 24 يوليو 1923, بعد الحرب العالمية الأولى بين قوات الحلفاء وتركيا بقيادة مصطفى كمال أتاتورك الملقب بأبى الأتراك, قرر الرئيس الحالى رجب طيب أردوغان إنفاذ قراره تحويل كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد, ورمزيتها تأتى من كونها كانت الاتفاقية التى أدت إلى الاعتراف الدولى بالجمهورية الوليدة على اثر انهيار الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة, فدشنت عصرا جديدا للدولة المدنية الحديثة على الأسس العلمانية, التى حكمت تركيا لتسعة عقود, قبل أن يجىء حكم حزب العدالة والتنمية ليُغير ملامحها شيئا فشيئا, وقد سبق لأردوغان أن هاجم تلك الاتفاقية تحديدا وعدَها سببا فى تآكل الإرث العثمانى الذى يسعى جاهدا لاحيائه اليوم.

كانت آيا صوفيا من أشهر وأهم وأقدم الكنائس الشرقية التى بُنيت على الطراز البيزنطى فى القرن السادس الميلادى, وتحتوى على جداريات ونقوش وزخرفات معمارية فريدة, وتم تحويلها لمسجد لفترة من الزمن بعد فتح السلطان محمد الفاتح, سابع السلاطين العثمانيين, للقسطنطينية (إسطنبول حاليا) فى 1453 واتخاذها مقرا للخلافة, لكنها تحولت بعد ذلك إلى متحف تاريخى وأصبحت واحدة من أبرز المعالم السياحية التركية, وأدرجتها اليونسكو فى قائمة التراث الثقافى العالمى الذى يمثل نقطة التقاء بين الشرق والغرب أو العالمين الإسلامى والمسيحى, ومن هنا تفردها وميزتها الكبرى إضافة إلى قيمتها التاريخية.

والواقع أن تركيا حافلة بالمساجد, إذ يبلغ تعدادها 82693 مسجدا أو يزيد, منها 3113 مسجدا فى إسطنبول وحدها, ما يعنى بوضوح أن قرار الرئيس التركى هو قرار سياسى بامتياز وليس قرارا دينيا, فتحويل الكاتدرائية القديمة إلى مسجد لن يضيف شيئا للدولة ولا للإسلام والمسلمين, ولكنه جزء من مشروعه المعروف بـ«العثمانية الجديدة», لذا لم تكن مصادفة أن يُصرح فى سياق تسويقه لهذا القرار بأن «آيا صوفيا عادت مسجدا على النحو الذى أراده لها فاتح إسطنبول».

لاقى القرار كما هو متوقع موجة من الانتقادات الدولية خاصة من الاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة, ورؤساء الكنائس, باعتباره مقوضا لدعائم الحوار والتعايش بين الأديان, خاصة أن هذا الإجراء سيتضمن حتما طمسا للمعالم الجمالية والمعمارية الداخلية للكاتدرائية كأثر تاريخى, ولم تفلح محاولات أردوغان بجعل زيارة المسجد مجانية أمام السائحين من تهدئة تلك الموجة.

فى كل الأحوال, لا يُعد هذا القرار هو الأول من نوعه ولن يكون الأخير بالطبع, لأن الأمر يتجاوز حدود الكنائس والمساجد, فمنذ سبع سنوات اندلعت مظاهرات ضخمة فى ميدان تقسيم بشارع الاستقلال, وهو واحد أيضا من أهم الميادين لطابعه الكوزموبوليتان الذى يجمع بين رموز مختلف الثقافات والأديان, كما يضم النصب الجمهورى, بسبب قرار مشابه اعتزم زعيم العدالة والتنمية اتخاذه تنفيذا لوعده الانتخابى, بإعادة انشاء ثكنة عسكرية عثمانية به, كانت قد هُدمت عام 1940, وامتدت الاحتجاجات إلى مدن أخرى, اعتراضا على مجمل سياساته بهذا الخصوص, حتى اضطر إلى استخدام القوة لقمعها, والتراجع الوقتى عن قراره, لكن بعدها بعام صرح رئيس البرلمان الموالى له, بأن مشروع الدستور الجديد يجب أن يكون إسلاميا, ما دعا وقتها القيادى فى الحزب أحمد داوود أوغلو (قبل انشقاقه عنه) إلى تأكيد أن مبدأ العلمانية الكمالية (نسبة لكمال أتاتورك) لن يتم المساس به, وهو مبدأ طالما دافع عنه أردوغان نفسه وأقر أنه لا يتعارض مع الإسلام ولا يعنى اللادينية كما يتصور البعض, بل ردد ذات الخطاب إبان زيارته للقاهرة 2011 وقت حكم الإخوان, تأكيدا لثبات موقفه, والأكثر من ذلك كان رفضه من قبل تغيير هوية آيا صوفيا, إلا أن الأحداث أثبتت أن هذه الآراء المعلنة لم تكن أكثر من مزايدة خادعة لحين إحكام قبضته تماما على السلطة, فهو القائل بأنه يريد تربية جيل جديد على الثقافة العثمانية, مثلما اختار لحرسه الخاص زيا عثمانيا, تعبيرا عن الاتجاه نفسه الذى امتد بدوره للأعمال الدرامية الموجهة من الدولة.

هذا التناقض فى المواقف يدلل على التوظيف السياسى للقضايا الدينية لخدمة سياسات النظام الحالى سواء على مستوى الداخل أو الخارج, وبالتالى فقراره المتعلق بآيا صوفيا هو ورقة إضافية لتجديد شرعيته السياسية وإظهاره كبطل قومى وسط أنصاره والتيارات المحافظة, خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية, ولا يمكن إغفال هنا ما مُنى به حزبه من إخفاق فى الانتخابات السابقة التى جرت منذ ما يقرب من عام ونصف العام, وهزيمة مرشحه الرسمى فى واحد من معاقله الرئيسية أى إسطنبول, وبفارق كبير مع منافسيه, كما أن حركة الانشقاقات الواسعة التى شهدها الحزب وأسفرت عن خروج أهم قيادته منه وتشكيلهم لحزبين جديدين أحدهما بقيادة داوود أوغلو والثانى لعلى باباجان, شكلت تحديا آخر أمام شعبيته وتماسكه التنظيمى, ما استدعاه للعب بهذه الورقة, أى اقحام العنصر الدينى فى الحياة العامة, كمحاولة لتعويض خسارته على هذه الجبهة, ولا شك أن تردى الأوضاع الاقتصادية الحالية بدوره سبب ودافع مضاف للعامل الانتخابى, فضلا عن سعيه للتغطية على التجاوزات الضخمة التى أعقبت المحاولة الانقلابية فى صيف 2016 فى مجال الحريات وحقوق الإنسان وما صاحبها من اعتقالات وتقييد لمؤسسات الدولة الحيوية وفى مقدمتها القضاء, جنبا إلى جنب مع وسائل الإعلام والصحافة ومنظمات المجتمع المدنى.

أما على المستوى الإقليمى, فهذه الورقة نفسها, تساعد على إضفاء نوع من المشروعية على مخططه التوسعى كما هو حادث فى سوريا وليبيا, أو بالأحرى فى الشرق الأوسط ككل باعتباره تاريخيا كان جزءا من الإمبراطورية العثمانية, وليس أنسب من التلويح بفكرة الخلافة الإسلامية التى تتزعمها بلاده فى طبعتها الجديدة لتحقيق هذا الهدف, وهو عنوان روج له العدالة والتنمية فى أحد مؤتمراته العامة تحت اسم تركيا القوية التى يمكن لها أن تعيد أمجاد الخلافة, لذا لم يكن غريبا أن يتحدث أردوغان عن العلاقات التاريخية التركية- الليبية التى تمتد لأكثر من 500 عام, فى إشارة واضحة للاحتلال العثمانى القديم, كواجهة لتبرير المصالح المؤكدة فى الثروة والنفط والغاز والاستثمارات وعقود إعادة الإعمار فى هذا البلد العربى, وهو نفس المنطق الذى يقف وراء دعم ومساندة جماعة الإخوان فى الوصول إلى السلطة وتمكينها سياسيا لتكون الأداة العربية فى المشروع التركى الشرق أوسطى.

لكن رغم كل ذلك, لن تنجح محاولات تمرير هذا المشروع فى ظل الرفض الإقليمى له, كما أن الأحلام الإمبراطورية قد انقضى زمانها.


لمزيد من مقالات د. هالة مصطفى

رابط دائم: