نولد بلا قصة ولا عنوان، وبعد عمر وبعد سنوات يأتى الموت ليضع نهاية للقصة ويكتب العنوان. وما بين الميلاد والموت قصة إنسانية تعيش على صراع وقتال لأجل أموال أو ملذات، إنسانية احترفت الكراهية والفناء. ولكن وسط هذا الصراع نرى من يحملون ملامح الخير، ووسط الظلام نرى من بعيد نورا يبدد تلك الحالة البائسة للإنسانية. هذا هو الحال أمس واليوم وإلى أن يقضى الرب وينهى الأرض ويخلصنا من تلك الحالة.
وكثير من الأدباء صاغوا رواياتهم على هذه الفكرة، لكن أعظم من قام بتشريح صراعات الإنسانية هو الأديب الروسى فيودور ديستويفسكى. فقد عاش فى صراعات العالم فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر. وانضم إلى جماعة تطالب بإصلاحات فى المجتمع الروسي، فقُبض عليه وحُكم عليه بالإعدام، ولكنه أُعفى عنه فى آخر لحظة، واُستبدل الحكم بالأعمال الشاقة لمدة أربعة أعوام فى سيبيريا.
وقد كتب رواية الأخوة كارامازوف، وهى أعظم ما كتب فهى بمثابة عالم مصغر، وأبطال القصة هم صور ورموز تعيش فى العالم. الأب هو فيودور كارامازوف رجل فى الخامس والخمسين من عمره، كان مالكاً صغيراً ولكنه متطفل على موائد الناس، سكير، شهواني، له أولاد ثلاثة وابن غير شرعي. ونتيجة طريقة حياته صارت كراهية شديدة بينه وبين أولاده.
وبالرغم من حياة الفجور التى كان يعيشها ولكنه كان يمر بلحظات يشعر فيها برؤية حقيقية لذاته، يقول فى الرواية: يبدو لى فى تلك اللحظات أن روحى تندفع خارج أحشائي، وقال لخادمه أيضاً: إن خفة العقل هى التى جعلتنا غير مؤمنين، وذلك أن يجعل الوقت لا يتسع للتفكير فى اللـه فلا نجد الوقت للتوبة. وديمترى هو ابنه الأكبر، وهو يشبه أباه كثيراً يصرف أمواله على الخمر والنساء. وعلاقته بوالده مضطربة جداً. وقع الاثنان فى حب امرأة واحدة هى جروشينكا. وكان ديمترى خاطبا فتاة اسمها كاترينا أحبها أخوه أيضاً إيفان، ولكنها أحبت ديمتري، ولكنه ذهب خلف جروشينكا التى ستكون السبب فى اتهامه بقتل والده.
وقال ديمترى عنه نفسه: لكنى رجل دنيء منحط تستبد به رغبات خطيرة وتضيعه شهوات سافلة، لم أمتنع عن الذهاب إلى جروشينكا وهى تريد أن تتزوجني. ولكن كيف يمكن أن أتزوجها إذا ذهبت إلى العجوز؟ ولكنى سأترصدها، ومهما كان الثمن سأمنع هذا حتى وإن قتلت العجوز. وقد أراد ديستوفسكى أن يبين سبب الصراعات ومستوى الانحطاط بين البشرية حتى يمكن لابن أن يقتل والده لأجل الصراع على المال والشهوات.
ثم يقدم لنا الابن الثانى وهو إيفان، ويمثل هؤلاء الذين يرفضون اللـه لأجل الثقة فى العقل فقط، ومحاولة إظهار أن الإيمان تخلف، فهو الابن الثانى كاتب وشاعر ويعيش حياة نفسية مضطربة بسبب معاناته مع القدر. وكان كثير التساؤل عن معنى الحياة والوجود والإله، فكان يقول لأخيه غير الشرعي: إذ لم يوجد اللـه فكل شيء مباح، وأيضاً قال: أنا لم أستطع أن أفهم يوماً كيف يمكن أن يحب الرجل قريبه، وما من شيء فى هذا العالم أن يجبر البشر على أن يحبوا بعض. ولا شيء يدعو للحب سوى الخلود فإذا فقدت الإنسانية الإيمان باللـه والخلود سيفقد البشر قدرتهم على الحب، ولن يبقى هناك شيء منافى للأخلاق، ويكون كل شيء مباحا، فلا شيء بعد الموت والعدم الكامل. فمن ذا الذى يضحك على الإنسانية؟ فقديماً قالوا إذا كان اللـه غير موجود فيجب اختراعه وهذا ما حدث.
وعلى النقيض من إيفان كان الأخ الأصغر وهو أليكسى أو إليوشا، ويعتبره ديستويفسكى هو البطل للقصة. وهو قد ذهب إلى الدير وصار راهباً، وهو عنصر الخير والحب والإيمان باللـه. وكان يقول: إنى أريد أن أعيش للخلود، وإنى أرفض أنصاف الحلول فى الحياة. وكانت علاقته بوالده فيها حب وتقدير، وكان هذا عنصرا غريبا على الأب أن يحبه أحد أولاده بالرغم من حالته وشروره. ولكنه كان يقول إنه تعلم فى الدير: إذا شعرت بأنك عاجز أن تخاطب الأشرار بالحسنى فأخدمهم صامتاً متواضعاً دون أن تيأس قط. وإذا هجرك الجميع وطرودك فاذهب إلى اللـه واسجد أمامه، واحتفظ بإيمانك حتى النهاية، حتى ولو كنت أنت خر من يحافظ عليه.وفى حديث بينه وبين والده قال له: يا أبى لقد تساءلت ما هو الجحيم؟ يا أبى الجحيم هو عذاب الإنسان حينما لا يستطيع أن يحب الآخر.
وسمردياكوف هو الابن غير الشرعى وكان ينتابه حالات صرع. وكان يحب أخوه الملحد إيفان، وتعلم منه أفكاره الإلحادية، وكانت تلك الأفكار هى التى دفعته إلى قتل والده وسرقة نقوده. ونأتى لنهاية القصة حين قُتل الأب، واُتهم فيها الابن الأكبر ديمتري، ولكنه صرخ لأخيه إيفان أن سمردياكوف هو القاتل. فذهب إليه وقال له: هل أنت القاتل؟، فقال له: لا نحن شركاء. أنت دفعتنى لذلك، أنت لم تقتل أباك بنفسك وهذا ما لم تستطع أن تفعله، ولكن أنا قتلته نيابة عنك. لماذا يخادع أحدنا الآخر؟ أنت الجانى الرئيسى والحقيقى وأنا مساعدك، خادمك الوفى الذى قمت بما علمتنى إياه بأقوالك، لقد قلت لى كل شيء مباح، وإذ لم يوجد الإله فالفضيلة إذن باطل لا جدوى منها. هكذا استندت إلى أفكارك وقتلته.
فخرج إيفان مسرعاً إلى المحكمة ليبرئ أخاه، ولكنه فى تلك الساعة شنق سمردياكوف نفسه وضاع الدليل الوحيد على صدق كلامه، وحُكم على ديمترى بالسجن عشرين عاماً.
تبقى النتيجة المهمة من أفكار ديستويفسكى هو أن سبب الشر والكر اهية هو عدم وضوح وجود اللـه، إما بالأفكار المشوشة، أو بعدم الاهتمام به، أو برفض وجوده. فإذا أردنا أن ينصلح العالم لنصلح نفوسنا، ونفتح عيوننا على وجود الرب الإله. يقول القديس والفيلسوف أوغسطينوس: لقد خلقتنا متجهين إليك يا اللـه، لذلك ستظل نفوسنا قلقة حتى تجد راحتها فيك.
لمزيد من مقالات القمص . أنجيلوس جرجس رابط دائم: