هل هو تضييق للمفهوم؟ أم قلة حيلة؟ أم الإخلاص لثقافة الاختزال التى سقط فيها الوعى العربى منذ قرون؟ أم غياب للفكر الاستراتيجى فى عقول القائمين عليه؟
هكذا يمكن وصف النشاط الثقافى فى مؤسساتنا العربية (الأكاديمية والثقافية.. إلخ)، فالمتتبع لإجمالى أنشطتها سيستطيع الملاحظة بسهولة، أنها لم تعد تتعدى مجرد إقامة ندوة يشارك فيها عدد محدود من الحضور قد لا يزيد على عدد المتحدثين قليلا، أو عقد مؤتمر لا تتجاوز مدة عرض الورقة البحثية فيه 20 دقيقة، ثم تدور بعض السجالات التى تعتمد فى الغالب الأعم على محاولة الانتصار للرأى فى مقابل الرأى الآخر، ثم ينتهى الأمر غالبا- بتعطل طباعة هذه الأوراق البحثية أو نشرها عبر الفضاء الإلكترونى، وشيئا فشيئا تغيب عن الذاكرة.
............................
يُطلب من الأقسام العلمية فى الجامعات أن تقوم بنشاط ثقافى، فتقترح ندوة أو مؤتمرا.. تحاول المؤسسات الثقافية إثبات فعاليتها فى القيام بدور ثقافى، فتقيم ندوة أو تعقد مؤتمرا.. تحاول مؤسسات غير ثقافية أن تعبر عن دعمها للمجتمعات وانفتاحها على أبعاد التنمية فلا تجد سوى إقامة ندوة أو مؤتمر.. يبحث المسئولون من القيادات العليا عن حل لمشكلات المجتمعات العربية العديدة (التطرف والإرهاب والجهل... إلخ)، فلا ينصرف تفكيرهم سوى للندوة أو المؤتمر.
فمتى بدأ هذا الاختزال لمفهوم الثقافة وتضييقه إلى هذا الحد الذى فرغه من مضمونه؟ وهل نحن بالفعل لا ندرك أهمية الدور الثقافى فى حل مشكلات مجتمعاتنا العربية التى حل بها الخراب فى كثير من ملامحها بسبب غياب أو تغييب الوعى على النحو الحادث؟.. وما الذى يميز التعليم فى البلدان المتقدمة مثلا- سوى أن نظامها التعليمى يتكامل مع السياسات الثقافية، بما يجعل نواتج التعلم (الخريجين) يمتلكون تعليما لا يمكن فصله عن الإنتاج الثقافى السائد فى تطوره العالمى؟.. وهل يمكن الإنكار أن الرواج الثقافى فى عصور سابقة هو الذى حمى البلدان العربية وحررها من الاستعمار مثلا، ومن الحركات الرجعية التى كانت تعرقل مسيرتها؟.. وأين موقع السياسات الثقافية من مؤسساتنا العربية القائمة على شئون الثقافة؟ ألا تستطيع على أدنى تقدير بلورة استراتيجية ثقافية تستطيع من خلالها الاستثمار فى الإنتاج الثقافى والقوى الناعمة لصالح حل مشكلاتنا؟ ناهيك بالطبع عن المكاسب المادية المباشرة وغير المباشرة التى ستتحقق من وراء ذلك، والتى بلورتها اقتصاديات المعرفة المتداولة عالميا.
الأنشطة الثقافية التى تحقق عوائد من هذا القبيل متعددة ولا حصر لها، وتعد الندوات والمؤتمرات أقلها فائدة قياسا إليها، والأمثلة على ذلك عديدة:
> ورش العمل، التى تعتمد على التعليم والتعلم العملى لحرفة أو مهنة أو صناعة أو نشاط، فى الفنون والصناعات والحرف، وهو ما يحقق عوائد كثيرة، بعضها يتعلق بتنمية الوعى، وبعضها بدعم الإنتاج، وهكذا.
> ورش الكتابة والتأليف، التى تسهم فى صناعة العقول المنتجة فكريا فى مجالات وتخصصات وحقول المعرفة المتعددة، وما يترتب عليها من تأثير فى رفع معدلات التنمية للدول والشعوب، وضمان إعادة العقل العربى للعلمية والمنهجية والتفكير العلمى بديلا عن السقوط فى وهم المعرفة الحادث.
> التدريب على الصناعات الثقافية والصناعات الإبداعية التى غدت اليوم محورا أساسيا من محاور تصنيف قوة الدول والمجتمعات، وفى الآن ذاته تحقق معدلات التنمية والإنتاج والعوائد المادية.
> الدورات التدريبية على صناعة المحتوى، والتى يحتاج إليها المتخصصون قبل غيرهم، لأنها المحك الأساسى لمفاهيم القوة عالميا، ولأن النتاج العلمى والثقافى والفكرى العربى يغيب عن الساحة العالمية بسبب غياب مفاهيم صناعة المحتوى، مما يجعلنا خارج المؤشرات العالمية للقراءة والكتابة والإنتاج المعرفى (على الرغم من أننا فى عصر مجتمع المعرفة والمعلوماتية).
> التقارير الثقافية والعلمية (تقارير الحالة الثقافية والعلمية)، التى ترصد مؤشرات التأليف والبحث العلمى والكتابة والقراءة والتحولات المجتمعية، والتى لا يمكن لأى حركات إصلاحية أن تحقق أهدافها إلا بالانطلاق من هذه التقارير، إضافة لقيمتها الدولية.
> استثمار الإعلام البديل (السوشيال ميديا) الذى لم تعد له كلفة، لنشر العلم والوعى والفكر، فحتى الآن لم نجد مثلا جامعة أو كلية استطاعت تسجيل مقاطع فيديو عملية ونشرها عبر اليوتيوب مثلا، أو تخصيص موقع أو صفحة على السوشيال ميديا لعرض تبسيط حقل التخصص، وبخاصة فى المعارف التى يحتاجها الجميع (طب الأعصاب والمخ والقلب.... إلخ، زراعة أسطح المنازل، تدوير المخلفات، طب نفس الأسرة..... إلخ).
وهذه مجرد نماذج مختصرة وقليل من كثير يمكن للأنشطة الثقافية الواعية والمدركة لدورها أن تقوم به ليحقق العوائد المرجوة ويخرج بنا من سياق الاختزال وثقافة القشور ومجرد تأدية الواجب، الذى لا يهدف فى حقيقته سوى لمحاولة الإثبات أننا نعمل ونشارك فى إحداث تنمية، والواقع أنه لا شيء من ذلك يحدث على الإطلاق.
رابط دائم: