تعليق بسيط للغاية على الفيس بوك لم يسلم صاحبه من الانتقادات، التعليق يستنكر موقف هؤلاء الذين يتمنون السوء لمصر فقط لأنهم معارضون، ووصفهم بأنهم عار على السياسة وعلى بلادهم. قطعا هم عار، وربما أكثر من العار، خاصة أن مصر تواجه لأول مرة أخطارا جمة منذ سنوات طويلة، على كل حدودها تقريبا، ما بين إرهابيين فى سيناء وتحرشات بحرية تركية شمالا فى البحر المتوسط حول مصالح مصر الاقتصادية وغربا فى ليبيا باحتلال جزء منها والاستعانة بـ16ألفا من الإرهابيين المرتزقة، وتهديدات إثيوبية على منابع نهر النيل فى الجنوب، والنيل هو مصدر الحياة للمصريين.
ورد أحدهم على التعليق: يعنى المفروض أن أوافق وأؤيد دخول حرب فى ليبيا لمجرد خيارات خاطئة، وإلا أبقى خائنا للبلد وأتمنى سقوطها، أو ماذا أفعل بالضبط؟
رد مستفز، فسألته: أين تقع حدود الأمن القومى المصرى غربا عبر تاريخها الطويل؟، ما الذى يمكن أن يحدث لو وٌجِد 16 ألف مرتزق «إرهابي» على حدود مصر الغربية بطول 1115 كيلومترا؟
فقال: الأمن القومى لا يتجزأ يا تسيبه كله، يا تأخذه كله، سيناء وليبيا، وحدودنا البحرية فى البحر المتوسط التى فرطنا فيها لقبرص واليونان نكاية فى تركيا، وسد النهضة الذى أعلن وزير الرى الإثيوبى بكل صلف بداية الملأ له. توقفت عن الحوار، فهذه عادة قديمة جدا عندما تسأل أحدهم سؤالا، فيرد عليك بأشياء لا علاقة لها بما سألت، تقول له إن النقاب ليس من الإسلام، فيرد عليك: يعنى تمشى الستات عرايا فى الشارع. لكن استوقفنى ذكر تركيا فى الرد، وتركيا تحت قيادة أردوغان سارت على طريق عداء مستحكم مع مصر، دون أن تدوس لها مصر على طرف مباشر، ولا أعرف أين نكايةُ مصرَ فى تركيا، إذا لم تكن مصر أصلا لها حدود بحرية مع تركيا تستفزها فيها، بل العكس هو ما تفعله تركيا بتحركاتها البحرية حول آبار الغاز المصرية فى البحر المتوسط، ثم بتوقيعها اتفاق ترسيم حدود بحرية مع حكومة ليبيا منتهية الصلاحية، التى لا تشاركها فى أى حدود.
نعم هناك معارضة لا ترى مصر وطنا، بقدر ما تراها مشروعا سياسيا، فإذا انتفت مصالحها فيه، فليحدث لها وفيها ما يحدث. قطعا وجود تركيا فى ليبيا خطر مباشر على أمن مصر، كما لو أنها تقف فى السلوم أو مرسى مطروح، تخيلوا معى لو أن الميليشيات المسلحة بمساعدة تركيا نجحت فى وضع يدها على سرت والجفرة، وباتت على حدود مصر الغربية مباشرة، وضع لا يمكن قبوله، وكيف نقبل أن يغل علينا إرهاب الجماعات الدينية شرقا وغربا من سيناء والصحراء الغربية، وسيناء محكومة، لكن الصحراء الغربية مفتوحة على الوادى شمالا وجنوبا، وهى تغطى ثلثى مساحة مصر.باختصار شديد، سقوط سرت والجفرة فى أيدى القوات التركية هو خطر هائل على أمن مصر القومي، لا يمكن أن تسمح به، وإذا كانت تركيا تطمع فى ثروات ليبيا تحت حماية ميليشيات الإرهابيين الذين نقلتهم من سوريا، وتحلم بعودة الخلافة العثمانية المستحيلة، فمصر لا تطمع إلا فى حماية نفسها والحفاظ على ليبيا من النهب. وبالقطع مصر لا تريد حربا، وإن كانت قادرة عليها، وهى مشغولة بإعادة بناء نفسها، ومناورات حسم 2020 التى نفذها بعض من جيشها على سواحل الصحراء الغربية، هى مناورات ردع، مناورات استباق لمنع الحرب، رسالة سلام، لعل من يفكر فى الحرب يحسبها ويدرسها ألف مرة، فمصر ترتكز على أرضها وصحراء شرق ليبيا هى امتداد طبيعى للصحراء المصرية، أما تركيا فهى هائمة فى غير أرضها، وتبعد عن حدودها أكثر من ألفى كيلومتر.
وطبعا لا ينسى أردوغان أن مصر 30 يونيو 2013 أفسدت مخططا بدأ مع الألفية الجديدة، حين وضع المحافظون الجدد وثيقة نحو قرن أمريكى جديد، ورأوا أن حكومات إخوانية فى الدول العربية تنقل الصراع الشكلى بين المتطرفين الإسلاميين والغرب، إلى صراعات داخلية، تنتهى إلى تفتيت تلك الدول إلى كيانات صغيرة، تضمن أمن إسرائيل إلى الأبد، على أن تكون تركيا هى مركز السلطة مستندة إلى تاريخ الخلافة التى سقطت فى عام 1924 ومازال البعض يبكيها حتى الآن.
ومن يومها والوالى العثمانى يحاول أن يسترد الحلم الإمبراطورى الذى هرسته مصر بشعبها وجيشها فى ساعات، عملها الوالى فى سوريا والعراق ثم ليبيا، غافلا عن أمرين: فلسفة التاريخ ودروس الجغرافيا السياسية. ومصر رتبت أولوياتها الأمنية حسب نوعية المخاطر العاجلة.
أما أثيوبيا فهى تلجأ إلى دفع الموقف مع مصر إلى حافة الهاوية عمدا، وهو أسلوب تفاوض لجأت له الدول الكبرى فى التعامل مع أزماتها، بغية حمل الطرف المقابل على تقديم تنازلات، عن طريق إيهام هذا الطرف بأن شروطه المطروحة غير مقبولة ولو أدى الأمر إلى الوصول إلى الهاوية وهى الحرب، وأول من استخدم مصطلح حافة الهاوية هو جون فوستر دالاس وزير خارجية أمريكا فى الخمسينيات، ونفذه فعلا فى الأزمة الكوبية عام 1962، التى اقتربت من الحرب النووية مع الاتحاد السوفيتي، الذى تراجع.
لكن إثيوبيا تتغافل أن تلك السياسة لا تصلح مع مصر على الإطلاق، لأن مصر فى مربع الدفاع عن وجودها ولا تناور على مصالح متناقضة، وأن إثيوبيا هى التى تمضى بأسلوبها التفاوضى إلى حافة الهاوية، سواء بوعى منها أو بدعم من دول توجعها مصر التى تعيد بناء نفسها. وعدم عصبية مصر فى التعامل مع إثيوبيا حتى الآن راجع لسبب بسيط للغاية، وهى أنها تعرف بدقة القرارات الواجبة عليها، فالاختيارات محددة ومحدودة، وإثيوبيا هى التى عليها أن تختار بين تحسين مستوى معيشة مواطنيها مقابل أن تضع مصر فى المربع صفر، أو بين تحسين مستوى معيشة مواطنيها بالتعاون مع مصر والسودان. لم أكتب عن السودان لأن موقفها يوجع القلب، وكانت بعضا منا، ولعلها تشفى من الفيروس الذى لخبط اختياراتها.
لمزيد من مقالات نبيـــل عمــــر رابط دائم: