لعلنا ونحن نحتفل بمرور 150عاما على بداية المسرح المصرى نحتاج إلى وقفات عدة مع رموز مبدعة حملت على عاتقها توصيل رسالة الفن الهادف وتهذيب النفوس وإيقاظ الضمائر ومحاربة الآفات الاجتماعية فى ظروف بالغة الصعوبة وفى أوقات كان فن التمثيل فيها أمرا معيبا لا تقبله أغلب الأسر، بل ولا تعتد المحاكم آنذاك بأرباب هذه المهنة .. ومن أبرز هؤلاء الرواد العباقرة الأستاذ حسين رياض «أبو الفنانين» كما كان يطلق عليه وصاحب الألف وجه كما سماه المؤرخ المسرحى د. عمرو دوارة فى كتابه المهم «حسين رياض الفنان صاحب الألف وجه» الذى رصد فيه حياته وأعماله بالصور النادرة وأصدرته أسرة الفنان الراحل مجانا بهدف إتاحة تاريخ رائد المبدعين أمام عشاق فنه.
الكتاب يعد بحق من أهم وأندر الكتب التى تؤرخ لحياة الفنانين حيث إذ يتضمن إلى جانب السيرة الذاتية والأعمال الفنية فصلا تمهيديا عن السياق التاريخى والفنى الذى ظهرت فيه تلك الموهبة الفذة كما يضم عشرات الصور النادرة من أعماله ومن أفيشات المسرح والسينما وشهادات النقاد والمبدعين ومقتطفات من أقواله وأحاديثه الصحفية تلخص رؤيته للفن وللحياة فى فصل حمل عنوان «أقوال ورؤى فكرية».. وفيه ظهور موهبته وهو طفل يتفنن فى اختراع الحكايات من وحى خياله وكيف تعامل معه أبوه بقسوة ظنا منه أنه يكذب ويحكى عن أشياء لم تحدث ولم يكن ضرب العصا يؤلمه بقدر ما كان يؤلمه التوبيخ لمجرد أنه ينفس عن هواية بداخله فى تأليف الحكايات والمواقف والقصص وتمثيلها قبل حتى أن يتعرف على فن التمثيل أو يزور المسارح.. وعندما بدأ يتجه لعالم التمثيل اختار لقب الجد الثانى له «رياض» حتى لا يعرف والده الأستاذ محمود شفيق أن ابنه اتجه للتشخيص بينما استفاد شقيقه الأصغر من نجاحه وقبول العائلة له فسمى نفسه فؤاد شفيق وصار هو الآخر علما من أعلام المسرح والتمثيل فى مصر.. ولم يكن الطريق ممهدا أمام الشاب حسين رياض الذى اختارت له الأسرة أن يكون ضابطا فى الجيش المصرى العظيم .. ولكنه فى أول إجازة من الكلية الحربية التقى بصديقه الهاوى الممثل حسن فايق وقررا أن يشجعا بعضهما بعضا على احتراف التمثيل أيا كانت العواقب وهكذا ترك الدراسة وسكن مع صديقه فى حجرة بسيطة بحى السيدة زينب.. وعانا معا من الجوع والتصعلك وكانا يسيران على أقدامهما ساعات طويلة لعدم القدرة على دفع قيمة تذكرة الترام رغم أن حسين رياض ينتمى لأسرة أرستقراطية معظم أفرادها من الضباط والأعيان.. والذى قوى عزيمته على ذلك أن الأستاذ عزيز عيد عندما شاهده وهو يمثل فى المسرح المدرسى حيّاه وشهد له بالنبوغ وقال له: «هناك مئات الضباط الأبطال ولكن لن يكون فى مصر إلا ممثل واحد اسمه حسين رياض».. وهكذا اختار طريقه الصعب وعاش سنوات طويلة وعمل فى كل الفرق القائمة مع نجيب الريحانى وعلى الكسار وأولاد عكاشة ومنيرة المهدية وفرقة سيد درويش ومع جورج أبيض الذى طرده من فوق المسرح عندما تأخر فى نطق جملته وأفسد اندماج الأستاذ.. ورغم قسوة تلك الواقعة إلا أنه لم ييأس وأصر على مواصلة رحلته الفنية بقناعاته هو عن فن التمثيل وهى البساطة والطبيعية فى الأداء والصدق فى التقمص والتقليل من حركة اليدين وعدم المبالغة فى التعبير بهدف توصيل الجانب النفسى من سلوك الشخصية التى يؤديها.. وعاش بسبب حرصه على التقمص والاهتمام بالتفاصيل للشخصية أشد المعاناة ففى فيلم «الأسطى حسن» والذى يؤدى فيه دور رجل مشلول أصيب فعلا بالشلل نتيجة المعايشة النفسية الكاملة وظل يعالج منه لفترة طويلة!! ولعل هذا الدرس القاسى قد جعله يتقن تجسيد شخصية المشلول فيما بعد فى فيلم «رد قلبى» «فى شخصية الريس عبد الواحد الجناينى وأيضا فى فيلم «لحن حبى» مع فريد الأطرش وصباح حيث كان يؤدى دور الزوج المخدوع.. كما أصيب حسين رياض بالتهاب حاد فى عينه وهو يجسد دور سلامة الكفيف فى فيلم «وإسلاماه» نتيجة إصراره على وضع قمع فوق عينيه للمصداقية والمعايشة!! ومرة ثالثة يصاب بتسلخات شديدة نتيجة الزحف على التراب والحصى وهو يجسد دور سجين معتقل المغول فى فيلم «أمير الانتقام».. ومرة رابعة يصاب فى أحباله الصوتية وهو يمثل فى مسرحية «شهر زاد».. ولكنه بقوة الإرادة يعود للتمثيل مرة أخرى ويستغل الآثار الجانبية للمرض والتى أورثته بحة فى صوته لتكون علامة مميزة له فى الأداء.. ويتغلب على مشكلة جفاف الريق بتناول ملعقة من الطحينة قبل التمثيل واستحلاب السكر نبات كما يؤكد جبرتى المسرح الحديث د. مرو دوارة فى كتابه المشوق وقصص أخرى كثيرة ولحظات من الكفاح والتحدى والإصرار على الارتقاء بفن التمثيل والذوبان عشقا فى المسرح «أبى الفنون» حتى إنه رفض نصيحة الأطباء بالراحة و قال: الموت أهون من الرقاد وأصر على أن يذهب إلى بروفة مسرحية على خشبة المسرح القومى الأقرب له وجدانيا من بيته وسقط أثناء البروفة فى يوم 16 يوليو على خشبة المسرح الذى أحبه وأفنى فيه حياته.. وفى اليوم التالى يعلن وفاة رائد من رواد «أبى الفنون» وعلما من أعلام فن التمثيل الراقى بمصر.
رابط دائم: