-
أطالب باستعادة العقل الفلسفى لأنه قادر على تمييز الخير من الشر والحلال من الحرام
-
هناك فلاسفة يشبهون النحل وفلاسفة يشبهون العنكبوت
-
نظامنا التعليمى لا يعترف بقيمة الفلسفة.. والنتيجة خريجون بعقول ملقنة وليست ناقدة
-
ابن رشد نموذج للمفكر الذى خالط السلطة والفقهاء واكتوى بنار الطرفين
-
د. زكى نجيب محمود من أوائل من دعوا لمواجهة الفوضى فى المجتمع بالفكر العلمى
-
ابن تيمية تم اختطافه لتيار فكرى واحد وسجل فى كتاباته عدم تعارض الفلسفة مع الشرع
ترى د. فاطمة اسماعيل أستاذة فلسفة العلوم بجامعة عين شمس ان كثيرا من أسباب تراجع مجتمعاتنا العربية يعود إلى ان تلك المجتمعات لا تمارس الفلسفة، وإنما على العكس تعاديها وتضعها فى برج عاجى، بينما المفترض أن نسعى لاستعادة العقل الفلسفى لأنه قادر على تمييز الحلال من الحرام والخير من الشر، مما يسهل مواجهة حالة الفوضى والفهلوة التى تكسو حياتنا، معتبرة أن البداية نحو التغيير تكون من خلال التعليم وأدوات المعرفة، مثل الإعلام والمنابر الثقافية
وفى حوارنا معها تطرقت د. فاطمة ــ التى قدمت إسهامات ومؤلفات كثيرة عن الكندى وابن رشد وزكى نجيب محمود والفارابى والقرآن والنظر العقلى ــ إلى الجانب الذى لا يتحدث عنه أحد فى فكر ابن تيمية المعروف بأنه إمام المتشددين، وكذا الدور التنويرى الفذ لابن رشد فى عصره، ثم مبادرات فيلسوف العصر د. زكى نجيب محمود لتغيير المجتمع بالفكر العلمى وتنديده بفوضى القيم فى حياتنا.
وإلى نص الحوار.
.....................
بداية كيف تصفين حالنا الراهن بعين استاذة الفلسفة، وهل أفدنا من تاريخنا الطويل مع الفكر والفلسفة فى كل العصور؟
بصراحة نحن أمة متخلفة لأننا لا نمارس الفلسفة، فنحن نقوم بتدريس تاريخ الفلسفة وسيرة الفلاسفة فى الجامعات ولا نقوم بممارسة التفلسف، مع أن هناك فارقا كبيرا بين المعنيين.
وأذكر أن فيلسوفنا المعاصر د. زكى نجيب محمود سألوه ذات مرة: ماذا نقرأ؟ فقال لهم: اقرأوا التجارب الحية، والفلسفة هى أم العلوم بمعنى أن كل العلوم تفرعت عنها ثم استقلت وانفصلت ولكنها لا تستغنى عن حضن الأم، ولذلك نقول كلما أردنا رد الشيء لأصله: فلسفة القانون أو فلسفة الاقتصاد أو فلسفة السياسة، لأن الفلسفة قابعة خلف كل علم وهى القادرة على كشف أهدافه ومناهجه وتصحيح مساراته.
عدنا للفلسفة
وقد وصف العرب الأوائل الفلسفة بعلوم الحكمة، واستندوا للآية الكريمة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، وفى زمانه قال ابن رشد إن الفلسفة هى الحكمة، وخاطب من رفضوها وكشف تلاعب بعض الفقهاء وكانت النتيجة حرق كتبه فى عصره وتشريده، ولذلك نقول نحن أهل الفلسفة إن بداية أى نقاش تكون بضبط المصطلح، ولذلك وضع الأوائل رسائل فى الحدود، أى تحديد معنى المصطلح لأنه لن يفلح حوار أو يستمر دون ضبط وتحديد المصطلح أولا.
على ضوء ذلك هل ترين أننا أعطينا الفلسفة حقها فى نظامنا التعليمى وحياتنا الثقافية؟
لا، فوزارة التعليم لا تعترف بقيمة الفلسفة، والتربويون زمان كانوا يركزون على تعليم الطفل الفلسفة بعكس الآن، وسبق ان ذكرت منظمة (اليونسكو) أن مصر وليبيا لا تهتمان بتدريس الفلسفة للأطفال بعكس الجزائر مثلا، فهناك اهتمام حكومى بتعلم الفلسفة لدرجة انهم أنشأوا مقاهى يتجمع فيها المهتمون لممارسة الفلسفة، ولذلك أطالب بثورة فكرية ومحاسبة النفس واستعادة العقل الفلسفى لأنه قادر على تمييز الحلال من الحرام والخير من الشر بعكس الفوضوية والفهلوة التى تكسو حياتنا، والبداية نحو التغيير تكون من التعليم وجميع أدوات المعرفة،مثل الإعلام والمنابر الثقافية والمقاهى ونشر الوعى، فالمأساة التى نعانيها أننا (أمة اقرأ) ولا نقرأ!
كان الراحل د. عاطف العراقى يقول إن سبب مأساة المشرق العربى أننا أهملنا ابن رشد وأعلينا من قدر ابن تيمية والغزالى فما رأيك؟
فى رأيى أن ابن تيمية ظلم ظلما بينا لأنه سجل فى كتابه؟ درء تعارض العقل مع النقل أو الفلسفة مع الشرع، لكن أحدا لا يتوقف أمام ما قاله وتم اختصاره فى تيار فكرى دينى واحد! أما ابن رشد فقد كان رائد العقلانية فى الفكر الإسلامى ولولاه لما وصل إلينا فكر أرسطو جليا، وقد رد فى عصره على الإمام أبى حامد الغزالى لما نشر كتابه (تهافت الفلاسفة) بكتاب (تهافت التهافت) وكانت معركة فكرية راقية بين معسكرين كبيرين فى المشرق والمغرب، رغم أن الاثنين اتفقا على ضوابط كثيرة منها أن الفلسفة هى محبة الحكمة.
ربما لا يتمتع ابن رشد فى بلادنا بنفس المكانة التى يحظى بها فى المغرب العربى، فهناك يحظى بمكانة كبيرة وتظل شروحه الصغيرة والوسطى والكبيرة محل تقدير ونظر باعتباره واحدا من أكبر فلاسفة العرب والمسلمين على مر العصور.
إحياء الذات
كتابك عن المنهج الفلسفى عند ابن رشد ماذا أردت أن تقولى فيه؟
فى الذكرى المئوية الثامنة لوفاة ابن رشد (520 هـ 595 هـ) الموافق (1126م 1198م) كثر الحديث عنه، وأنا من المؤمنين بأن الحوار مع التراث يهدف لإحياء الذات، وهذا لا يتأتى بإحياء المذهب بل بالوقوف على المنهج، فالمشكلات تتغير من عصر إلى عصر ويظل المنهج صالحا للتطبيق فى كل عصر وهذا يستدعى الرجوع إلى الأصل لاستخلاص الأقوال المنهجية، والعبرة بالمنهج الصالح للتطبيق فى الواقع كما قدم أرسطو مثلا على عكس أفلاطون. كذلك فإننى فى ضوء فهمى للفلسفة على أنها منهج للحياة، أرى أن ابن رشد أكبر فيلسوف مسلم اهتم بالمنهج وبالكليات وأكبر دليل على ذلك كتابه ( الكليات فى الطب) وهو كتاب صريح فى فلسفة الطب، كما أن ابن رشد ربط حلقات الفلسفة ببعضها عبر التاريخ وعبر الحضارات (قديم وحديث وغرب وشرق)، وقدم فى كتابه (تهافت التهافت) أروع نموذج لحوار فكرى عالمى وليس عربيا إسلاميا فقط، كما أنه نموذج للمفكر الذى يعيش عصره وخالط السلطة والفقهاء واكتوى بنار الطرفين وأحرقت كتبه ودخل فى معارك كثيرة، أخيرا ظلم ابن رشد بين قادح فيه يريد أن يقطع صلته مع هويته الاسلامية وبين من يتحزب للاتجاه العقلى عنده فقط وهو بالنهاية فيلسوف مسلم لم يعارض الشرع وصاحب منهج متطور وإن كانوا فى المغرب العربى يعتبرونه ملكا لهم ويأخذون على ابن سينا والفارابى الاتجاه الاشراقى الصوفى.
وأرى أن ابن رشد مر بأربع مراحل اولاها تأسيس الوعى وكان تقليديا فيها وبدا متأثرا بابن باجة وابن تومرت وابن طفيل والفارابى والغزالى وبطليموس وأرسطو، وجاءت مختصراته تعبر عن إنقاذ الضرورى من المعرفة العلمية وسيطر عليه التشاؤم وكان موسوعيا كمن سبقه مثل الكندى وابن سينا والفارابى.
وجاءت مرحلته الثانية بإعادة شرح التراث الأرسطى فى جوامعه وشروحه الصغرى، ثم المرحلة الثالثة بإعادة قراءة التراث الاسلامى ونقده، فقدم كتبه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال 574هـ) و(الكشف عن مناهج الأدلة فى عقائد الملة وتعريف ما وقع منها بحسب التأويل والشُبه المزيفة والبدع المضللة 575هـ) و(تهافت التهافت 577هـ)، وفى مرحلته الأخيرة وصل لقمة النضج فقدم (تفسير ما بعد الطبيعة وشرح كتاب البرهان وكتاب النفس والسماع الطبيعى والسماء والعالم).
فى هذا العصر الذى نعيش فيه.. هل يحتاج المجتمع لممارسة الفلسفة وهل هى قادرة على حل مشكلاته؟
نعم بشرط النزول بها من البرج العاجى إلى الشارع وأرض الواقع وجعلها سبيلا لحل كثير من معضلات حياتنا، مثل أزمة العنوسة والطلاق، يجب أن نشرح للشباب أنواع الحب وهكذا وأنه ليس فى الحياة وصفة واحدة للحياة، وكان فرانسيس بيكون قد فرق بين الفلاسفة العقلانيين الذين يشبهون العنكبوت والفلاسفة التجريبيين الذين يشبهون النحل والنمل، كما فرق د. زكى نجيب محمود بين مجتمعات كالنحل تهضم الرحيق وتفرزه عسلا، ومجتمعات كالنمل تعمل بانتظام عملا شاقا، أما أنا فأصف مجتمعاتنا العربية بأنها مجتمعات معلومات،وليست مجتمعات منتجة للمعرفة، كما أن النظام الأبوى عندنا يقوم على التلقين والسمع والطاعة وليس على إعمال العقل، والطلبة يريدون الحصول على الشهادات وليس المعرفة وهم أشبه بالبالون المليء بالمعلومات فإذا جاء الامتحان أفرغوا ما فى رءوسهم على الورق وخرجوا صفرا، فالتربية من الصغر خاطئة على مستوى الفرد والجماعة.
رسالة التنوير
أخيرا وضعت كتابا ضخما عن زكى نجيب محمود وأنت ممن يعجبون به فما هى خلاصة موقفك منه ومن آرائه؟
د. زكى نجيب محمود أبرز مفكر وفيلسوف عربى معاصر وكان مهتما بالمنهج كعادة الفلاسفة على مر العصور من سقراط وأفلاطون وابن رشد وغيرهم، وكان د. زكى متمسكا بالمنهج العلمى فى التفكير منذ نشأته حتى وفاته عام 1993، ويمكن تقسيم مراحل تطوره الفكرى إلى مرحلة ما قبل الوضعية المنطقية وهى مرحلة الشباب قبل سفره إلى لندن سنة 1944 ومرحلة الجبر الذاتى حيث سجل الدكتوراه عنها فى لندن وكان قبلها قد حصل على درجة البكالوريوس الشرفية من جامعة لندن سنة 1945 بالدرجة الأولى والتى احتسبت بمنزلة ماجستير.
فى مرحلته الأولى كتب وعمره 22 سنة عن أبى بكر الصديق، ثم وقفة مع سقراط بعد ترجمته لمحاورات أفلاطون الأربع سنة 1936 وأخذه بمبدأ سقراط الأول فى تحديد المعانى المستخدمة فى الحديث أو كما نقول فطن لأهمية المنهج مبكرا، ثم كتب مقالا فى التصوف (بين المعجزة والعلم).
ويحسب للدكتور زكى نجيب محمود انه من أوائل من دعوا لتغيير المجتمع بالفكر العلمى وندد بفوضى القيم فى حياتنا كما فى كتبه ( جنة العبيط وشروق من الغرب وأفكار ومواقف والكوميديا الأرضية وقصة عقل ) وغيرها، وقال صراحة إن التنوير واجب محتوم على المثقفين وهو ما تصدت له الفلسفة فى كل العصور، ودعا فى كتابه (خرافة الميتافيزيقا) سنة 1953 إلى التجريبية العلمية كرد فعل على الاستهتار السائد فى المجتمعات العربية، ودعا للوضعية المنطقية كرد فعل على طغيان المثالية الكاذبة، وهى مرحلة وسطى من تفكيره، وأخيرا وصل للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة أو القراءة العصرية للتراث بعد الهجوم عليه وانتقل من التحليل الجزئى للرؤية الشاملة المتكاملة ووفق بين العقل والوجدان ويؤكد أن دستورنا الأخلاقى كما يتمثل فى أسماء الله الحسنى يستغرق كل صفة يتطلبها عصرنا.
لقد عاد د. زكى من لندن بفكر منطقى جديد سنة 1947 وكان متدينا فى كل مراحله وليس كما يشاع عنه بغير ذلك كما كان عقلانيا فى كل مراحله أيضا، وكان يدرك أهمية دوره كمفكر حر مستنير ومتفاعل مع مجتمعه مع احترامه للثوابت وتطوره مع المتغيرات ويحسب له أنه شق طريقا فى الفكر العربى ودعا لنزول الفلسفة من برجها العاجى لأرض الواقع وكسر الحاجز بين الخاصة والعامة وكان على رأس المجددين فى عصرنا فى كل ما كتبه من مقالات وقصص وكتب متخصصة وترجمات، باختصار هو واحد ممن أثروا حياتنا وقدم نموذجا لما ينبغى أن يكون عليه المثقف التنويرى فى عصره وخدمة مجتمعه.
رابط دائم: