كيف سيكون شكل الحياة فى المدن بعد وباء كورونا؟ .. والتركيز على المدن يأتى من كونها أكثر المناطق تأثرا، فالفيروس نشأ فى مدينة ووهان المزدحمة بالسكان وسط الصين، وانتشر منها إلى مدن أخرى، وسقط معظم ضحاياه فى المدن، ثم أصبحت نيويورك أكثر المدن تضررا من الفيروس، ولايزال كثيرون لا يعرفون كيف ستكون الحياة فى المدن بعد انتهاء الجائحة ويتساءلون، هل تستطيع المطاعم الصمود حقا والاستمرار كما كانت عليه؟، وهل ستعود العمالة؟، هل سيعود الناس إلى استخدام وسائل المواصلات المزدحمة؟، وهل نحتاج حقا إلى المكاتب فى الأبراج العالية، والتى تتطلب أن يصعد إليها كل فرد عن طريق المصاعد الكهربائية.
وحين نفكر فى ذلك كله، تبدو لنا فكرة الحياة فى مزرعة بعيدة جذابة، فالمدن تزدهر لوجود فرص العمل، ووسائل المتعة، وتوافر مختلف أنواع السلع والخدمات، وإذا صار الخوف من الإصابة أمرا طبيعيا، فإن مستقبل المدن يصبح مشكوكا فيه، ولكن إذا وجدت مدن العالم طرقا للتكيف مع هذه الأوضاع، كما كان يحدث عادة فى الماضى، فإن عصرا من النجاح قد يكون فى انتظارها. ومن أجل مساعدتنا على تصور الحياة فى المدن بعد هذا الوباء، طلبت مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية، من مجموعة كبار المفكرين بدول مختلفة من العالم، تقديم توقعاتهم للمدن فى المستقبل.
يرى بعض الخبراء، أن المدن الكبرى سوف تتجاوز فيروس كورونا، فالمدن كانت بؤرة انتشار الأمراض المعدية، وعادة ما كانت تعود بقوة، وربما بشكل أقوى مما كان، وخلال العصور الوسطى اجتاح مرض الطاعون مدنا فى أوروبا وآسيا، وحتى بداية القرن العشرين، وأدت الإنفونزا الإسبانية عام 1918 إلى وفاة حوالى 50 مليون شخص حول العالم، وظلت نيويورك ولندن وباريس تعانى من تبعاتها. ويوضح التاريخ لنا أن الناس ينتقلون إلى المدن فى أعقاب الأوبئة، حيث تجذبهم إليها فرص أفضل للعمل، وأجور عالية، بعد أن يكون قد حدث تناقص فى عدد سكانها. وربما تفتح هذه الأزمة نافذة صغيرة للمدن لاستعادة أوضاعها، وإعادة تنشيط مراكزها الخلاقة، ومن المتوقع أن يعاد تشكيل بعض المجالات فى المدن، اعتمادا على مدى استمرارية الوباء الحالى، وربما يؤدى الخوف من الكثافة فى المدن والزحام فى القطارات وخطوط مترو الأنفاق، بالإضافة إلى الرغبة فى التواجد فى جو تكون فيه أكثر سلامة، إلى أن تصبح بعض الأحياء خارج المدن أكثر جذبا للنزوح إليها، وهو ما ينطبق أيضا على المناطق الريفية. وربما تلجأ الأسر التى لديها أطفال، وتكون معرضة للإصابة، إلى تبادل شققها الموجودة بالمدن بأخرى فى الضواحى، لكن هذا لا يمنع من قيام قوى أخرى بدفع بعض الناس للعودة نحو المراكز الكبيرة فى المدن. فالشباب الطموح سيكون أكثر الفئات انجذابا للعودة إلى المدن، بحثا عن فرص عمل، وسوف تكون الأجور القليلة للمساكن العامل الأكثر جذبا بالنسبة للفنانين والموسيقيين للعودة للمدن.
«نظرة إلى ما وراء الضربة الكبرى للعمالة» – للبروفيسور إدوارد جليسر، أستاذ الاقتصاديات بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «انتصار المدينة: كيف جعلتنا اختراعاتنا الكبرى أكثر ثراء وذكاء وصحة وسعادة».
على الجانب الآخر، يعتقد خبراء آخرون أنه إذا صار الوباء أمرا طبيعيا يحيط بحياة الناس، فإن الملايين من أعمال الخدمات فى المدن سوف تختفى، وأن الفرصة الوحيدة لتفادى ضربة قاصمة لسوق العمل، تأتى من استثمار مليارات الدولارات بطريقة ذكية فى إقامة بنية تحتية للرعاية الصحية، بحيث يظل هذا الوباء، محنة لبعض الوقت فقط، ويشيرون إلى أنه فى غياب اللقاح المناسب للعلاج، ستستمر هذه الحالة من عدم الاستقرار، خاصة أن المدن كانت تعانى من نقص مزمن فى الإيرادات، وعجز فى ميزانياتها، حتى من قبل كورونا، والأولوية الآن هى لإنقاذ الأرواح، وتوفير الخدمات الأساسية، والمحافظة على القانون والنظام، وهذا الأمر له أهميته الخاصة فى مدن الدول المتقدمة، وفى المناطق التى ترتفع فيها أسعار المواد الغذائية، مما يزيد من مخاطر الجوع، والاضطرابات الاجتماعية. والآن تعكف كثير من المدن على وضع خطط لمنع أى وباء قادم مستقبلا، وتجديد ودعم أنظمة الرعاية الصحية، لمواجهة أى تهديدات مماثلة فى المستقبل. وأدى الوباء إلى الإسراع بإيجاد وسائل مستجدة، مثل التعامل الرقمى فى تجارة التجزئة، والانتقال إلى التعامل بغير النقود فى الاقتصاد، والتحول إلى أداء العمل عن بعد، وتقديم الخدمات حسب الطلب، وقطع المسافات مشيا فى الشوارع.
وأصبحت السيارات التى يمكن قيادتها عن بعد بدون سائق مسألة حيوية. ويتيح الفيروس فرصة لرجال الأعمال، للتخطيط لإيجاد ظهير للمدن، وعلى هذا تكون المدن هى المجال المناسب لتجربة الاختراعات الجديدة، التى تتواءم مع هذه الأوضاع المتغيرة، وقد بدأت دول مثل بريطانيا وأستراليا، فى تنفيذ خطط لتطويرأساليب التعامل فى الاقتصاد.
ويوضح بعض المحللين، أن 95% من المصابين بـ «كوفيد-19» يعيشون داخل المدن، وهذا هو ما كشف عن ضرورة التخفيف من التفاوت الأساسى فى المساواة بين السكان فى داخل المدن، وقد أصاب فيروس كورونا الأماكن الأكثر عرضة للتأثير به، بما فى ذلك مليونا من سكان المناطق الأكثر ازدحاما فى الأحياء الفقيرة، وكذلك الآخرون الذين ينقصهم السكن الملائم والآمن.
وأدى الوباء إلى تفاقم الانقسام داخل المدن، نتيجة الفشل المستمر منذ وقت طويل فى علاج حالات عدم المساواة، وتوفير حقوق الإنسان الأساسية.
وتحتاج أساليب إصلاح الأمور لما بعد «كوفيد-19»، إلى التصدى لهذا الفشل، وأن يزود جميع سكان المدن بالخدمات الأساسية، خاصة السكن والرعاية الصحية، وأن تكون السلطات المحلية هى القوة المحركة نحو تقليل الفجوة فى مسألة انعدام المساواة، ومدعومة من سياسات الحكومة الفيدرالية، بزيادة التقارب المعيشى للمدن وسكانها.
فى حين توقع آخرون، أن تصبح المدن أقل ازدحاما، وتزيد من فرص التقدم بها، وإن كان يمكن أن تستمر بنفس معدل السرعة. وسوف تفقد المدن جزءا من تنوع مظاهر الحياة الاجتماعية، وسيقل الخروج لتناول الطعام فى المطاعم، وزيادة فى طلب جلب الوجبات للمنزل، وتراجع فى الذهاب إلى أماكن التسلية، وسيتحول رواد دور السينما العامة إلى مشاهدة الأفلام فى البيت، ولبعض الوقت سيقل الذهاب إلى صالات الألعاب الرياضية، وإلى صالونات الحلاقة، إذا لم يتم توفير إمكانات التباعد الاجتماعى بها، وضمان سلامة صحة الأفراد.
وسيفضل الانتقال دون تزاحم الركاب فى وسائل المواصلات، وعلى هذا ستقل الانتقالات من مكان لآخر، وستصبح تكلفة السفر من مدينة لأخرى مكلفة جدا. وسيصبح العمل من داخل المنزل خيارا مطروحا، باستخدام الفيديو كونفرانس، ويكون أداء الخدمات فى المكاتب الحكومية بتكلفة أقل. ومعنى هذا أن يكون هواء المدن أكثر نقاء، والحياة فى المدن أقل تكلفة.
كما يمكن إعادة تخطيط الطرق، لتوفير حارات للمشى على الأقدام وأخرى للدراجات الهوائية.
وتعتمد قدرتنا على احتمال فترة هذا الوباء، على إيجاد أشكال جديدة وآمنة للمحافظة على سلامة الركاب والعاملين فى وسائل المواصلات العامة، وعلى تطوير عمل مواقع هذه الخدمات، ليكون من السهل التعامل مع أى أزمة مقبلة.
إن التحدى الذى نواجهه ليس فيما إذا كانت المدن سوف تبقى على نفس أوضاعها التى عرفناها، لكن السؤال هو ما إذا كان لدينا رؤية وتخيلات عن تغيير معالم الشوارع لتكون أكثر أمانا وسهولة فى استخدامها، وأكثر توافقا مع احتياجاتنا فى هذه المدن.
كما من المتوقع أن يعمل التباعد بين السكان على تقليل تكاليف الإسكان فى المدن، وأن يتم التخطيط للمستقبل، بما يوفر أداء العمل داخل المنزل، واستخداما أقل للمواصلات.
رابط دائم: