رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الجوع ينهش أجساد اللبنانيين ..
سياسة التسعينيات المالية تتراكم لتنفجر فى وجوه الجميع

محمد القزاز

«بلد بيجنن بس خربولنا ياه».. تلخص رانيا اللبنانية المشهد فى بلادها بهذه الكلمات. متهمة الطبقة الحاكمة بأنها السبب فيما وصل إليه حال البلاد، وترى أن من حكم لبنان هو من نهبه وأوصله إلى هذا الوضع المأساوى العنيف جدا، ولكن الكل ينسى ويحمل حكومة لم يمض على تكليفها أشهر قليلة كل ما يحدث فى لبنان، نحن نعرف من يفعل ذلك ومن يريد ذلك، من حكم لبنان يريد أن يحكمه على الدوام، أنا أثق فى هذه الحكومة، هى تريد الإصلاح. لم نر منها إلا محاولات إصلاح بالفعل، معظمهم اختصاصيون، وأساتذة بالجامعات. لم يكونوا أمراء حرب، لم يشاركوا فى معركة، لم تتلوث أيديهم بدماء اللبنانيين، هم يحاربون طغاة يعرفون كيف يتلاعبون بالشعب وبالمسئولين وإلقاء التهم عليهم. مشاكل لبنان المتراكمة عبر 30 سنة، لا يستطيع حتى إينشتاين أن يحلها بسهولة، والحكومة بالفعل تحاول.

فيما تصف إحدى الناشطات فى العمل المدنى الشارع بالمنقسم طائفيا، فتقول: الوضع ضاغط على كل اللبنانيين. أصبح الكثير منهم مرضى نفسيين، الكل يكلم نفسه فى الشارع وفى البيوت، الكهرباء أصبحت تأتى ساعة كل عشر ساعات، هجوم على محال السوبر ماركت. نشعر بأن الوضع ككرة ثلج تزيد كل يوم، نشعر أننا ننزلق بسرعة إلى النموذج اليمنى، أعمال العنف فى كل مكان، تهديدات بإحراق البنوك التى تحجز على الودائع، وحرق السوبر ماركت التى تمتنع عن بيع السلع أو البيع بأسعار مبالغ فيها، الكل مصدوم من الوضع، وجماعة حزب الله تشعر بأنها انتصرت، وأن إيران بالفعل هى التى تحكم، لم نعد نشترى لحوما الأسعار تزيد بـ 500%، الضاحية التى نعيش فيها أشبه بثكنة عسكرية، الكل متأهب لأى تحرك لإجهاضه، عشنا حروبا كثيرة فى لبنان لم نشعر بالخوف كما نشعر به هذه الأيام.

لم تجد أنطونيلا وهى الطالبة الجامعية من مخرج لأزمة لبنان سوى بانتخابات نيابية مبكرة، ترى أن وجع الناس بالشارع والبيوت لم يعد يطاق، وأصبح تغيير الوضع السياسى مطلبا ملحا، وكل يوم نسمع عن منتحرين من الشباب وأرباب الأسر، الوجع طال الكل، وأصبحت أمانيهم هى الحصول على تأشيرة سفر لترك البلد، الوضع مزرٍ للغاية، أصبحنا مادة دسمة للشاشات المحلية والعالمية، بسبب عدم توافر الدواء صار البعض يهجم عليها بالسلاح للحصول عليه، نهب وسرقات علنية على الطرقات لعدم وجود مصارى. نحن بحاجة إلى طبقة سياسية يكون همها الأول أن تغير الوضع فى لبنان، برغم أن هذا التغيير هو من باب الأمنيات فى ظل اللعبة السياسية فى لبنان، والحكومة لم تكن حكومة اختصاص، هى حكومة اللون الواحد، تابعة لحزب الله، يتحكم فيها ويوجه مسارها.

معلمة الأطفال بالبقاع رواية قالت، إن الوضع مزرٍ جدا، فى أزمة العملة وهى المسيطرة فى الآونة الأخيرة لدرجة أنها غطت على وباء كورونا الذى أصبح مثل لعبة سياسية، وضربت لنا مثلا بمنطقة قريبة من بلدتها وهى المصنع- مجدل عنجر تم دفع مبالغ لأشخاص حتى يكونوا مثل أسماء وهمية يدعون أنهم مصابون بالوباء، حتى يتوقف أهل البلدة عن تسكير الطرقات والالتزام بالمنازل لتقوم جماعة حزب الله بتهريب الطحين والمازوت لسوريا عبر المعبر البرى المصنع، ارتفاع يومى جنونى لصرف الدولار بسبب هيمنة المصارف والغطاء عليهم، حيث يقوم أصحاب المصارف بصرف الدولار بأسعار رهيبة عالية جدا، وبالمصرف يلتزمون بالسعر المقرر من نقابة الصرافين ولكن تحتكر الدولار وتدعى أنه لا يوجد دولار بالسوق والمصارف، فالدولار بالبنك لا يزال ١٥١٥ ليرة، وعند الصرافين ٣٩٠٠ ليرة، بينما بالسوق السوداء ٨٠٠٠ ليرة اليوم ( كان ١١٠٠٠ من يومين)، كما أن البنوك أيضا تحتكر أموال المودعين وتم تخصيص مبلغ صغير ما يعادل ٢٠٠ ألف ليرة بالشهر، وهو لا يفى بأى شيء مع الغلاء الفاحش الذى نعيشه.

بكلمات مأساوية وشديدة الألم، يروى أحد رجال الدين المسيحى على الفيس بوك ما رآه فى أهم شوارع لبنان «الحمرا»، فيقول: اليوم جلت فى شوارع رعيتى، ومررت بشارع الحمرا. الظلام يسطع مما تبقى من محلات البيع... القهاوى خاوية، الشارع خالٍ من ناسه، الإحباط بادٍ على وجوه شباب المحلة التى لمحتها.. والأخطر ظاهرة افتراش الرصيف.

رجل طاعن فى السن كان نائما وقد وضع ربطة خبز معفن تحت رأسه ليستطيع أن يغمض عينيه، انتظرته حتى يستيقظ وعندما اقتربت منه لأسأله عن حاله رفض أن يجاوب والتفت يمينا وأخذ قطعة جبنة وقسمها ورمى نصفها لهرة خلفه، ثم قال لى: «اتركنى أعمل شى مفيد وما كون متل بلدى لى ما قدر يعملى شى».

ويصف آخر الوضع: من يعرف بيروت ليلا، سيربكه التسكع فى شوارعها فى هذه الأيام، سيشعر فورا بأن حزنا ما يحوم حول كل شيء، وسيبحث كثيرا وقد لا يجد ضحكة واحدة تخرج بلا قلق من أفواه الساهرين ورواد المقاهى القليلين.

أزمة لبنان فى سياسته المالية والنقدية منذ ثلاثة عقود، هكذا يحلل لنا ربيع الهبر أستاذ الإحصاء وصاحب شركة متخصصة فى استفتاء الآراء والبحوث، فيؤكد أنه منذ عام 1993 وسعر صرف الدولار مقابل الليرة ثابت عند 1557 ليرة، وعملت الدولة اللبنانية على تثبيت هذا السعر عبر تدخل مستمر لمصرف لبنان المركزى، لكن المشكلة أنه كلما شعرت الحكومة بانهيار الليرة كانت تقوم بتمويل سعر الصرف من الأموال المودعة فى البنوك اللبنانية والتى يتم إقراضها أو تشغيلها فى مصرف لبنان على شكل قروض مقابل سندات يورو بوند أو سندات سيادية.. وخلال كل تلك السنوات تم رفع سعر الفوائد بالمصرف المركزى والبنوك، من أجل أن يؤدى ذلك إلى زيادة الودائع فى البنوك وتحفيز المودعين على وضع المزيد من أموالهم فى المصارف، وشجع المصرف المركزى ذلك، حيث أعطى فائدة مرتفعة قدرت بما يتراوح بين 6 و 8% لحث هذه المصارف على الاستثمار فى هذه الأموال، وقد بدأت هذه السياسة مع تولى رياض سلامة مسئولية المصرف المركزى، حيث قام برفع فوائد السندات إلى 48 مليارا. وخلال تلك السنوات جرى تثبيت سعر الصرف، واستمرت الحكومة بسياسة مالية تعتمد أولا على استجلاب ودائع إلى لبنان من الخارج حتى وصلت فى عام 2019 إلى 176 مليار دولار بناتج محلى سنوى قيمته 56 مليار دولار، وتسبب ذلك فى عدم توازن فى الوضع المالى والنقدى فى لبنان، مما تسبب فى دفع مبلغ كبير سنويا مقابل الفوائد.. وبالتالى تراكم الدين المحلى ليصل إلى 90 مليار دولار، وهذا الحجم من الدين فى بلد مثل لبنان هائل، ومن هنا بدأت الناس فى نهاية العام الماضى بسحب ودائعهم من المصارف، وإرسالها إلى مصارف فى الخارج أو الاحتفاظ بها فى منازلهم، حتى وصلت الودائع فى مصارف لبنان إلى 152 مليار دولار، وبدأ الحراك أو ما سمى بالثورة فى 17 أكتوبر الماضى، ومن ثمّ بدأ المصرف المركزى بتقنين إعطاء الدولارات إلى المصارف من 3 مليارات فى الشهر إلى 800 مليون منها 400 للمصارف و400 للصرافين، مما شكل إحجاما للمصارف عن إعطاء الدولار للمواطنين، مما أحدث بلبلة فى الشارع وجوا سيئا وعدم قدرة على تأمين الاعتمادات والتحويلات، واعتمدت سياسة عدم إرسال الأموال للخارج، فى ظل تفشى وباء كورونا فى نهاية مارس الماضى، توقف صرف الدولار من المصارف، واقتصر الوضع على السوق السوداء، وأصبح المتحكم فى الصرف وسعره هم الصارفون الصغار والكبار معا، وأصبحت الكتلة النقدية نحو 16 ألف مليار ليرة لبنانية ونحو 15 مليون دولار هو التى يتداول عليها اللبنانيون، ومؤخرا قرر المصرف المركزى ضخ مزيد من الأموال فى الأسواق بما يقدر بـ 14 ألف مليار ليرة إلى الأسواق اللبنانية نتج عنه ارتفاع سعر الدولار إلى نحو 10 آلاف ليرة مقابل الدولار، وهذا سيناريو مخيف، ولكن كيف سيواجه لبنان هذا الواقع؟ علما أن هناك نحو 300 ألف شخص تم تسريحهم من أعمالهم، ونحو 10 آلاف شركة أقفلت أبوابها، وأكثر من نصف مطاعم لبنان توقفت، والقطاع السياحى منهار تماما، لا إنتاج ولا تصدير، لا شيء مفيدا على الإطلاق يحدث فى لبنان، المواطنون خائفون، وأكثر خوفهم أن يظل الدولار فى تصاعد، يعجزون أمامه عن تلبية احتياجاتهم، الوضع مخيف جدا، والأيام المقبلة ستكون أصعب، حيث من المتوقع استمرار ارتفاع الدولار، وسوف يواجه لبنان مشكلة أكبر فى الاستيراد خاصة ذات الطابع الرسمى كالنفط والقمح وغيرهما، وما لم يستقر سعر الدولار فلن تستقر أسعار السلع.

دكتور إيلى يشوعى أستاذ الاقتصاد اللبنانى يقول: لا شك أن ما وصل إليه لبنان من مرحلة انهيار كبير يعود إلى النصف الأول من عقد التسعينيات، وذلك حين اعتمد المصرف المركزى اللبنانى على سياسة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وربط تلك السياسة بمستويات مرتفعة لفوائد الأموال. ونتيجة لهذه السياسة لم يستطع البنك المركزى أن يبنى اقتصاد استثمارات واقتصاد إنتاج واقتصاد تصدير، لكنه بنى فقط اقتصادا ريعيا واقتصادا مبنيا على الاستيراد، خاصة أنه خلال الفترة من 1993 وحتى 2000، وكذلك فى عامى 2015 و2016 شهد لبنان أعلى مستويات تحويل الأموال وعملات أجنبية لعدة أسباب منها الأزمة المالية العالمية 1997، والأزمة الاقتصادية فى الشرق الأوسط، والسرية المصرفية، وأيضا الفوائد المرتفعة من قبل المصارف على ودائع اللبنانيين، هذه العوامل مع عوامل أخرى تمثلت فى العجز المتواصل فى الموازنات العامة، ولم يكن هذا العجز يستخدم من أجل حفز الإنتاج والاقتصاد، بل كان نتيجة خدمة دين مرتفعة بسبب الفوائد المرتفعة، فضلا عن هدر وحصص وعملات وسرقات كبيرة، قامت الطبقة السياسية فى لبنان بتواطؤ مباشر مع حاكم البنك المركزى وقبول أصحاب المصارف، حيث استفادوا كثيرا من تلك السياسات على حساب اللبنانيين والمستثمرين.

ويشير إلى أنه لم يستبعد يوما أن يحدث ما نراه الآن فى لبنان، كنت دائما معارضا للسياسة الماكرو اقتصادية النقدية والمالية والموازنتية والخدماتية والتصديرية منذ 1993، حيث إن تلك السياسات التى تتكل وتستند إلى عوامل خارجية، هذه العوامل الخارجية لا يمكن أن تبنى اقتصادا، والفوائد المرتفعة وتثبيت سعر الصرف لا يمكن أن يبنى اقتصادا، ولا الهدر والسمسرات والمحاصصات يمكن أن تبنى اقتصادا، الفساد المالى لا يمكن أن يبنى مجتمعا ودولة واقتصادا.

فالتحويلات من الخارج سواء كانت منحا أو قروضا أو استثمارات عربية خليجية أو مغتربين لبنانيين، كانت ترتبط بعوامل خارجية سياسية واقتصادية، فحين تراجع سعر برميل البترول من 120 دولارا إلى 20 دولارا تراجعت تحويلات العاملين فى الخارج بصورة حادة، وحين اشتد النزاع بين إيران ودول الخليج، تأثر لبنان كثيرا، حيث توقفت عمليا كل استثمارات الخليجيين بلبنان، التى كانت تتراوح بين 4 و5 مليارات دولار سنويا، وعندما انهارت مالية لبنان أقفلت أبواب الاقتراض الخارجى، ومن هنا نكرر أنه لا يمكن لأى بلد الاعتماد على عوامل خارجية لا يستطيع السيطرة عليها، وهو ما وقع فيه لبنان للأسف.

أى بلد يريد أن ينهض عليه أن يعتمد على الداخل، على الموارد البشرية والمالية والطبيعية، أن يكون عنده إنتاج مميز، وأن يحسن تحقيق قيمة مضافة مرتفعة، وأن يدخل بقوة فى اقتصاد المعرفة، وأن يكون قادرا على التصدير، وكل هذه الأمور تستطيع الدولة أن تتحكم فيه، بينما الخارج فهو خارج عن سيطرتها.

ولخروج لبنان من تلك الأزمة يرى يشوعى ضرورة التوافق على من نهب لبنان، وإعادة أموال أساسية رئيسية إلى الخزينة اللبنانية، وعلى أصحاب المصارف أن يسحبوا من حساباتهم الخاصة المودعة خارج لبنان ليضخوها رساميل جديدة فى مصارفهم، حتى تسترد المصارف بعض الملاءة، هذه حلول لإنقاذ الوضع يسانده فى ذلك قضاء يتحرك لضبط الوضع. أما الحل على المدى القريب فهو خروج الدولة من كل شيء اسمه خدمات عامة، وخروجها من كل شيء اسمه مشروعات وبنى تحتية، والذهاب إلى مناقصات ومزايدات المشروعات المعلقة سواء كهرباء أو حقول بترول أو غيرها بشفافية وبدون محاصصة بواسطة مكاتب استشاريين وإداريين دوليين، لبنان لا يستطيع أن يتحمل ديونا جديدة، لا يستطيع تحمل صندوق النقد الدولى، لقد وصل لبنان إلى نقطة التشبع من الاقتراض والاستدانة، على لبنان أن يتكل على نفسه وعلى موارده.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق