رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

نفس عميق من الهواء النقى (2)

.. ومن باريس الحكيم إلى باريس بيرم.. وياللفرق الهائل بين الاثنتين! فلكى يكتب بيرم هناك ما نعُدُّه الآن من أكسجين الإبداع المصفّى الذى نتداوى به من الهموم والأدران، كان عليه هو أن يختنق فى معامل صهر الرصاص والفولاذ، حيث اضطرته لقمة العيش، والجوع الذى طالما طارده, للعمل فيها, فأصيبت رئتاه بربو مزمن عاش به سنين نفيه العشرين، وعاد به لمصر فى الأربعينيات حتى قتله فى النهاية عام 1961. لكنّ الشاعر العظيم يغلب النحلة فى أمر جوهرى: فهو يفرز لنا الشهد فى كل الأحوال، سواء ذاق رحيق الزهر أم اقتات مما تعافه النفس ويزيّنه الجوع للموشكين على الموت ومَعِداتهم الخاوية تعوى. فبينما كان الحكيم يرتاد المسارح والمتاحف ويتعبد فى محراب الفن، كان الجوع يكاد يُذهل بيرم أحياناً عن نفسه وعما حوله، إلا أن قرون استشعار شاعريته كانت بمعجزة تسجّل كل شىء؛ فيقول عن الفجر فى باريس: الفجر نايم وأهلِك يا باريس صاحيين/ معمرين الطريق داخلين على خارجين/ ومنورين الظلام راكبين على ماشيين/../ ولسه حامد وعيشة وإسماعين نايمين// راحت على الشمس نومة والبلد فى ظلام/ وقبل دى الشمس فات ابن المدينة وقام/الكون ينوّر بإيده لما شمسُه تنام/ فايتها للشرق تتلطّع على الأطلال/ ينشف عليها الغسيل والطبلة والغربال/ ويقوم على لَدْعَها النايم سنة بطّال».. وتتوالى الأبيات حاملة لمحات الدهشة والانبهار والإكبار ممزوجة بالتحسر على خيبة الأهل والأحباب. كما أنك تجد فى أشعار بيرم المكتوبة فى فرنسا تلك الثنائية المتضادة التى تجمع الإعجاب بحضارة الغرب مع أنّات المعاناة التى يلاقيها ابن الشرق الفقير إذا كُتب عليه أن يتغرب فى أرض الحضارة تلك، فيقول بيرم فى قصيدة أخرى: قضيت حياتى غريب فى أرض فرنسا/ يا ويحه من يدخل فرنسا غريب/ لقيت كلام القوم شهد مْكَرر/ لكن عيونهم تشتعل لهاليب/../ أتعس عباد الله هناك الأجانب/ أقولها والمولى عليّا حسيب/ اللى دخل بفلوس يا ضيعة فلوسه/ واللى دخل يكسب جزاه توضيب/ يدخل يشوف ماليين قزان المسابك/ فولاذ مِسَيّح فوق دماغه قريب/ عليه رئيس واقف وراه الجرادل/ شايلينها من كل الأمم مناكيب/ ميّل قَزانُه بالدولاب ع الجرادل/ كأنه فى الجردل يصُب حليب/ خمس تلاف درجة ينط شرارها/ ويطُبّ يخرق أجمد المراكيب..

كان بيرم كما أسلفنا أحد هؤلاء المنكوبين, أو «المناكيب» كما يقول، لكنه كان يملك عينين ذاتى بصيرة قبل البصر، وكان يراسل صحف ومجلات الشرق بما يراه ويثير فيه العجب والإعجاب من ناحية، والشجن والحسرة والسخرية من الناحية الأخرى. ويا للحسرة المضاعفة والسخرية المبكية أن ضنت عليه معظم تلك الإصدارات الصحفية التى راسلها بإبداعاته طوال سنين المنفى على أن تقوم تلك الدور بإيصال أجر أزجاله وكتاباته لأطفاله فى مصر الذين يتّمَهم نفيه, لكنها ضنت عليه وعليهم بتلك القروش, فأكلت عليه مال هؤلاء اليتامى فى حياة أبيهم! ومن ضمن ما سجّله وراسل به صحف الشرق الحزين مشاهداته وتأملاته لنساء باريس وأطفالها، فقال من بين ما قال: يا مدمزيل يا للى ف قصرك/يا زينة عصرك/ البَسْط يُحبُك على خصرك/يتهز قوام/ فى الحرب بتواسى المجاريح/ فوق الطراريح/ وتقلبى الغم بتفريح/ والنار بغرام/../ دول فى المدارس ودُّوكى/ ودول ربوكى/ الله يخليكى لابوكى/ وامِّك يا تمام/ طلعتى حافضة جغرافيا/ وصحة وعافية/ حتى اللى هو بلا قافية/ حافضاه يا سلام/ البنت عضو ف أكاديميا/ وتعرف كيميا/ خلينا إحنا فى البامية/ والفقر التام» ..وباقى القصيدة مقارنات واستطرادات تشرح أسباب الهّم والحسرة إزاء ما يحمله الشاعر فى صدره من تذكارات محزنة لنساء وطنه وأطفاله فى مطالع القرن العشرين.. وللحديث بقية.


لمزيد من مقالات بهاء جاهين

رابط دائم: