وثقت «الأهرام» لأهم المحطات فى تاريخ الإمام الجليل، ومن هذه المحطات، ما أوردته الصحيفة المصرية من كتابات محمد عبده، كما فى مقاله: «الأهرام .. جريدة مؤسسة على أحكم قواعد الإحكام» الذى نشر بتاريخ 3 سبتمبر عام 1876، ونصه كالتالي: «إنه لما نظر لدى كل قاص ودان واشتهر بين بنى نوع الانسان ان مملكة مصر كانت فى سالف الزمان مملكة من أشهر الممالك وكعبة يؤمها كل سالك وناسك. إذ كانت قد اختصت بتربية العلوم وبث المعارف المتعلقة بالخصوص والعموم وانفردت بالبراعة فى الصنائع والابتكار فى أنواع البدائع. فكان أبناء العالم إذ ذاك ينتدون مداها ويستجدون جداها، يستمطرون من الغيث قطرا، ويستمدون من المحيط نهرا فكان التمدن فيها كهلا حين كان عند غيرها طفلا. ومازالت كذلك حتى زها فيها التمدن وأعجب إذ رأى الطالبين تنسل اليه من كل حدب. وان ملوك الأرض خدام عتبته وتيجان الكيانين تحت قبضته. فاستكبر واعتلا، ولكؤوس الراحة اجتلا. فاقصته الى ممالك الغرب، ليذوق مرارة الشغب واللغب ويتربى بذلك ويتأدب فبدا بتلك الممالك غريبا، ونادى معلما وجد مجيبا، وتناوشته أيدى الجاحدين ولفحته أقوال المنكرين ومازال يحتمل أنواع المتاعب ويقاسى مستعصيات المصاعب الى أن بلغ بها أشده وملك رشده، وسار فيها شرقا وغربا، وخامر الباب القوم حبا، فعم انتشاره وبدت آثاره وتلألأت أنواره.
وإذ تحلى بتحلل الجمال وتتوج بتاج الكمال وقضى مدة السياحة وباء بغاية الراحة استدار الزمان كهيئته، ورجع الأمر إلى بدايته، وأفل التمدن إلى مسقط رأسه ومقر تربيته، فورد ديار مصر ورود الأهل وتمكن بها تمكن الأصل فاستقبلته الديار بغاية المسرة، واكرمت مثواه واعظمت أمره واستردت ما كانت فقدت، وادنت ما كانت أنأت وأحلته محل القرب وأنزلته سوداء اللب. فقام يؤدى حق خدمتها ويوفى شكر كرامتها فنظر إلى ما كان أبداه فى تلك الأزمان من شواهق البنيان، التى كم بلغت الأسباب وحيرت الألباب، وانبأت بما فيها من براعة بانيها ونطقت بفيها أن آيات الكمال فيها. فلما أعجب بالمثال حداه حادى الكمال لأن ينسج على هذا المنوال، فأنشأ لنا جريدة الأهرام المؤسسة على أحكم قواعد الاحكام الكافلة بارشاد المسترشدين وتنبيه الغافلين، بما فيها من المبانى الرقيقة، والمعانى الدقيقة، والأفكار العالية المؤيدة بالبراهين الشافية، القائمة بنشر العلوم بين العموم. فيالها من جريدة أسست قواعدها فى القلوب وامتدت مبانيها لكشف الغيوب تنادى بمقالها وحالها حى على الفلاح وهلموا إلى موارد النجا، لا تقفوا عند صورة المبنى ولكن تجاوزوا عنه إلى المعنى تلك أهرام أشباح، وهذه غذاء أرواح تلك ظواهر صورة وهذه دقائق عبر، تلك مساطن أموات وهذه لسان سر السماوات.
نعم أين ذلك الزمان من هذا الآن الذى قد سطعت فيه شموس العرفان، ونشأ فيه بنو الانسان نشأة أخرى وتقلبوا فى فنون الحقائق بطنا وظهرا فحقيق أن تكون أيامنا غير أيامهم وأهرامنا غير أهرامهم؟ وأين الذى تفنيه الرياح والأمطار من الذى لا يوهنه توالى المدد والاعصار فان مقره العقول العاليات والنفوس الزاكيات التى لا يتناولها الفنا ولا يبددها العنا فبخ بخ بمنشيها وطوبى لقاريها فمن الواجب على ذوى الألباب أن يجتنوا جناها، وأن يستطلعوا سر معناها فيبوءوا بأنوار الحكمة، وينقلبوا بفضل الله ونعمه فان ليس شيء لدى العاقل أبهى من حقيقة يكشفها، ولا ألذ من حكمة يصادفها، هذا إيجاز فى مزاياها بسم الله مرساها ومجراها».
رابط دائم: