فنجان القهوة ليس مجرد مشروب منبه يعشقه الكثيرون، لكن خلف هذا الفنجان الصغير تاريخ كبير وحكايات وروايات وثورات وضحايا ودماء؛ الحديث عنها أقرب مايكون إلى الأساطير الساخرة، ولكنها ويا للدهشة، الحقيقة المرّة كطعم القهوة السادة .
فلم يلق مشروب من الجدل الفقهى العنيف بين علماء الدين لثلاثة قرون من الزمان مثلما لاقت «القهوة»..منهم من أفتى بحرمتها حرمة قطعية، مستحلها كافر حلال الدم، ومنهم من قال بحلها، بل أطلق عليها اسم

«خمرة الصالحين» نكاية فى من يحرمون شربها .
كان بدء انتشار القهوة فى زمن الاحتلال العثمانى لبلاد الشام ومصر والحجاز فى القرن العاشر الهجرى السادس عشر الميلادي، ومن غرائب بعض سلاطين آل عثمان إصدار فرمانات بتشديد تحريم القهوة وهدم المقاهى وإعدام من يجاهر بشربها لأسباب سياسية ترتدى ثوب الدين !
..................................
أشعار وفتاوى
لم تقف الأحداث عند الفتاوى وتأليف الكتب والرسائل التى تُحرم وتُحل، مثل «عمدة الصفوة فى حل القهوة» للشيخ عبد القادر الأنصاري، «رسالة عن القهوة والدخان والأشربة المحرمة «للشيخ مصطفى الأقحصاوي، «أرجوزة فى تحريم قهوة البن» للشيخ نور الدين العمريطي، لكن ذكرتها الأشعار المناهضة الساخرة من أصحاب فتاوى التحريم، المؤيدة لشيوخ حلها، ففى كتاب «النور السافر فى أخبار القرن العاشر» للشيخ عبداللـه العيدروسي،أشعار للبكرى الصديقى توفي993 هـ :
أقول لمن ضاق بالهم صدره وأصبح من كثر التشاغل فى فكرِ
عليك بشرب الصالحين فإنه شراب طهور سامى الذكر والقدرِ
فمطبوخ قشر البن قد شاع ذكره عليك به تنجو من الهم فى الصدرِ
وخلّ ابن عبدالحق يفتى برأيه وخذها بفتوى من أبى الحسن البكرى
وابن عبد الحق هو شيخ الأزهر أحمد بن عبدالحق السنباطى المعين من السلطان العثمانى في945 هـ صاحب فتوى الفتنة الكبرى التى تسببت فى القتل والنهب .. وكانت شروط اختيار شيخ الأزهر ليس شهرته العلمية فقط بل الولاء للباب العالى وكثرة أتباعه وقوة حاشيته وشدة بأسها التى يعتمد على قوتها البدنية إذا لزم الأمر.. كما يذكر كتاب « شيخ الجامع الأزهر فى العصر العثمانى» الصادر عن مكتبة الإسكندرية.
ووصفها الشيخ جمال الدين القاسمى فى كتابه» رسالة فى الشاى والقهوة والدخان» قائلًا:» مشروب الكُتاب والمدرسين والمطالعين للكتب والمعلمين للعلوم الأدبية والصناعية والشعراء وأهل الأدب «.. وكان العلماء يقولون: « قهوة البن، أو القهوة البنية»، لتمييزها، لأن «القهوة» اسم من اسماء الخمر عند قدماء العرب .
ومن عجب فإن القهوة التى تم تحريمها وقطع رأس من يشربها فى بلاد الخلافة العثمانية حماية لشرع اللـه، أصبحت هى المشروب الرسمى وواجب الضيافة فى مجالس الملوك والأمراء، وكذا المشروب الوحيد المسموح به غير ماء زمزم فى إفطارالصائمين بالكعبة المشرفة والمسجد النبوى .. فمن حالفه الحظ بزيارة البيت الحرام والمسجد النبوى فى شهر رمضان، وحضر تناول طعام الإفطار داخل جنباتهما، حيث تتكفل به المملكة السعودية فمن غير المسموح جلب الأطعمة والأشربة داخل الحرمين سيعيش لحظات سعادة غامرة وبهجة للنفوس عامرة، يحمله فيها عبق روائح ذكية عندما تفوح رائحة القهوة العربية الممزوجة بكثير من حبات الهيل « الحبهان»، بعطرها الساحر العبقرى فى هواء المسجدين .
بل إن القهوة العربية هى المشروب الوحيد الذى يسمح للزائر بإصطحابه داخل الحرمين فى أى وقت من العام .. ناهيك عن أن القهوة هى مشروب الضيافة الأول فى عموم بلاد العرب، وترى الفناجين والدلة أدوات صناعة وشرب القهوة فى كثير من لوحات الفن التشكيلى وتماثيل الميادين كرمز سياحى وطنى يشهد على الأصالة والعراقة .
وصول القهوة إلى مصر
قبل أن نلج خضم معترك القهوة يجب التنويه عن عدة نقاط .. لماذا سمى هذا المشروب بالقهوة ؟ تقول المعاجم العربية ماخلاصته :» القهوة مصدرها من» ق ه ا»، وسميت بذلك لأنها» تقهي» شاربها،أى تُذهب بشهوته وتردها عن الطعام.. نقول: أقهى عن الطعام أى ارتدت شهوته عنه وزهد فيه» .. ومعروف فى أيامنا هذه ظاهرة»الرجيم وحرق الدهون « الذى يعتمد على شرب مغلى حبوب البن « القهوة الخضراء» دون إضافات سكرية.. على الريق . وقد سميت أماكن شربها « القهوة والمقاهي»،لأنها سبقت معرفتها مشروب الشاى بزمن طويل، وقد كانت الدكاكين والحوانيت والحانات التى تبيع الأشربة مثل» عرق السوس والخروب والدوم ....« تسمى «الشربتلي»، ولما دخلت القهوة مصر مع طلاب الأزهر من اليمنيين وقبلهم شيخ الزهد و التصوف ابوبكرعبداللـه العيدروسى الشاذلى اليمني، وحسب كتاب «ملامح القاهرة فى ألف عام » للأديب جمال الغيطانى : «أول من اهتدى إليها حيث كان يمر فى سياحته بشجر البن فاقتات من ثمره حين رآه متروكا مع كثرته، فوجد فيه تجفيفًا للدماغ واجتلابًا للسهر وتنشيطًا للعبادة، فاتخذه طعامًا وشرابًا.. وأرشد اتباعه إليه، ثم وصل العيدروس إلى مصر سنة 905هــ « وبعد أن أحبها الناس، انتشر بيعها فى دكاكين الشربتلية وسميت باسم المقاهي.. وتم توسعتها وتنظيمها بالشكل الذى نراهاعليه الآن وسمى من يقدمها « قهوجي» .
ولعل أشهر حوادث» القهوة « المؤسفة فى صراع الفقهاء وبعض سلاطين دولة الاحتلال العثمانى فى حرمتها وحِلها ثلاث وقائع، فى مكة المكرمة والقاهرة وإستنبول.
موقعة مكة المكرمة
كانت مكة المكرمة تتبع فى فتاويها وتصريف أمورها الدينية والحياتية والإدارية عاصمتها القاهرة، فى عهد السلطان قانصوه الغورى آخر سلاطين المماليك على مصر والشام وبلاد العرب، قبل أن تقع المنطقة فريسة للاحتلال العثمانى فى القرن العاشر الهجري، وكان محتسب مكة وحامى الأخلاقيات بها وقتذاك، المملوك الخائن للجيش المصرى لصالح الجيش العثمانى « خاير بك الجركسى « الذى أطلق عليه المصريون « خاين بك».
وفى ليلة احتفال الصوفية بالمولد النبوى فى عام917 هـ رأى خاير بك جماعة يشربون القهوة بجوار الكعبة فظنها خمرًا، فعقد مجلس العلماء والأطباء وكانت شرارة الاختلاف الأولى حيث انقسموا فى حرمتها وحِلها ووقف من كان يوصف بأنه شافعى زمانه وجنيد أوانه الشيخ محمـد بن عراق توفي933 هـ فى المنتصف، وأفتى بهدم « بيوت القهوة» ولكنها فى ذاتها حلالًا.. يعنى القهوة حلال لكن المقاهى حرام .
واشتعلت الفتنة، فأطلق خاير بك مناديًا فى مكة بمنع القهوة، وأعد محضرًا طويلا بتفاصيل الواقعة، لم ينس فيه تأكيد مواظبته على الصلوات وتقوى اللـه، والأمر بالدعاء لسلطان البلاد دبر كل صلاة وعلى المنابر.. ثم ارسله إلى السلطان الغورى بالقاهرة يطلب الفتوي، رغم ظهور طوية نفسه فى كلمات والمحضر، يقول :«ماقولكم فى مشروب يقال له القهوة مُشاع شربه بمكة المشرفة وغيرها بحيث يتعاطونه فى المسجد الحرام وغيره يُدار بينهم بكأس من إناء لآخر، وقد أخبر خلقٌ ممن تابع عنه بأن كثيره يؤدى إلى السُكر، وأخبر عدول الأطباء بأنه مُضر بالأبدان ......... » .
ويبدو من المحضر المذكور أن الشيخ نور الدين بن ناصر الشافعي، مفتى مكة ومدّرسها آنذاك، كان من المدافعين عن القهوة خلال ذلك الإجتماع، مماعرضه إلى مصاعب جمة بعد أن كفّره بعض الحاضرين . المحضر كاملًا فى كتاب « عمدة الصفوة فى حل القهوة» الشيخ عبد القادر الأنصاري.
من نافلة القول، إن الحال لم يدم طويلًا، إذ تم مكافأة « خاين بك» كأول حاكم لمصر تحت حكم الاحتلال العثمانى .
فتنة القهوة
كان الشيخ أحمد بن عبد الحق السنباطى هو أول من تولى مشيخة الأزهر فى عهد الاحتلال العثمانى سنة 945، حسب جدول كتاب مشايخ الأزهر فى العصر العثمانى عن مكتبة الإسكندرية، ووصفه ابن عماد الحنبلى فى كتابه شذرات الذهب : « اشتهر فى أقطار الأرض مثل الشام والحجاز واليمن والروم وصاروا يضربون به المثل وأذعن له علماء مصر» . كان السنباطى يقود الحملة ضد القهوة بشراسة وأفتى بتحريمها قبل توليه مهام المشيخة بسنوات وتحديدًا فى سنة 941 هـ بدعوى أنها مُسكرة.
ووصف كتاب « عمدة الصفوة...» الحال : تعصب جماعة من العوام لماسمعوا فتوى الشيخ السنباطي، وخرجوا إلى بيوت القهوة فكسروا أوانيها، دون أمر من الحاكم، وكانت فتنة كبيرة.
وهنا كان للشعر كلمته فى وصف مسببات الأحداث، والحقيقة إن ماقيل فى القهوة يمكن تصنيفه كمًا ونوعًا بما يمكن تسميته «أدب القهوة» :
إن أقومًا تعدوا والبلا منهم تأتي
حرموا القهوة عمدًا قد رووا إفكًا وبهتا
إن سألت النص قالوا إن عبد الحق أفتي
وارسل تجار البن وفدًا منهم إلى الشيخ السنباطى يرجونه العدول عن الفتوى حتى تخمد الفتنة فرفض قائلًا: مادام القهوة تؤثر فى العقل فهى حرام .
وقامت معركة كبيرة بين مؤيدى السنباطى والتجار ومعهم أصحاب المقاهي، وقتل واحد من مؤيدى التجار وجرح آخرون، مات منهم واحد آخر، فهرب الشيخ السنباطى ومن معه داخل المسجد، فحاصر التجار وأهالى القتلى المسجد وأقاموا سرادقًا ليقيهم البرد، وقاموا بصنع القهوة وتوزيعهاساخنة بدون سكر « سادة» .. ووئدًا للفتنة أحال السلطان الأمر لقاضى القضاة محمـد بن إلياس الحنفي، وبعد مناقشات أفتى بعدم تحريم القهوة.. وتولى حكم مصر خسرو باشا، وفى زمنه فشت القهوة والقهاوى حسب كتاب «أوضح الإشارات فيمن ولى مصر القاهرة من الوزراء والبشاوات» تأليف أحمد جلبى عبد الغنى وكتاب «الكواكب السائرة» للغزى .
لكن بعد ربع قرن وكما قال الشيخ الجزيرى فى كتابة « الدرر الفرائد» جاء حكم سلطانى مفاجئ إلى القاهرة فى مطلع شعبان 968 هـ يقضى بمنع المنكرات والمسكرات والمحرمات ويغلق أبواب الحانات والخانات ومنع استعمال القهوة،والتجاهر بشربها وهدم كوانينها وكسر أوانيها..نفذ العسس الأمر السلطانى بقسوة، وكانت السلطة العثمانية تتساهل فى أمر الخمر والبرش والحشيشة معللة ذلك بأنه يؤدى إلى حرمان الخزينة السلطانية من الضرائب المفروضة . وظل أمر القهوة بين الحِل والحرمة حتى إننا نجد كتاب « حسن الدعوة للإجابة إلى القهوة» للشيخ الإدكاوى من قرية إدكو قرب رشيد 1104 هـ يذكر حوادث جديدة ومناوشات واختلافات بعد أكثر من ثلاثة قرون عن بدء الفتن الخاصة بالقهوة.
خلفاء تحريم القهوة
من مساخر فرمانات الخلفاء العثمانيين تغليف السياسة بالدين لتحقيق مصالحهم والسيطرة على رقاب الناس، وإذا أردنا مثالًا : فرمان من السلطان مراد الرابع الذى تولى الخلافة عام 1042 هـ 1623 مـ وهو فى الحادية عشرة من عمره، تحت وصاية والدته السلطانه « كوسم» والصدر الأعظم، وهى الرتبة الثانية بعد السلطان .. يقضى الفرمان بتحريم شرب القهوة وقطع رأس من يجاهر بشربها، بدعوى أنها كما قال تقرير رفعه إليه وزيره : « تنبه عقول الناس وتزيد غضبهم ضد السلطان والتخطيط للنيل منه حيث يجتمع الخلق فى بيوت القهوة وتدور المعازف والغناء والحديث فى شئون البلاد ويكثر اللغط والغلط» .. ويموت السلطان مراد عن 27 عامًا بمرض التليف الكبدى لكثرة شرب الكحوليات، وخلفه شقيقه إبراهيم الأول، الذى بدأ عهده بتخفيف فرمان أخيه بأن يتم تغريم وجلد شارب القهوة للمرة الأولي، وإذا ضبط مرة ثانية يكتف بالحبال ويشد عليه حجرًا كبيرًا ويلقى فى النهر حتى يموت . وفى النهاية يتهاوى المتشددون باسم الدين تحت أقدام التطور، لكنهم بلا حياء ينهضون لاستغلاله، أيضًا باسم الدين .. قديمًا حرموا القهوة ثم شربوها بل أصبحت باسمهم « قهوة تركي» .. حرموا الآلة الطابعة فى زمن السلطان بايزيد الثانى 819 هــ ثم تسابقوا لطبع كتبهم فيها.. حرموا التصويرثم تسابقوا لنشر صورهم .. حرموا مشاهدة القنوات التليفزيونية ثم ظهروا على شاشاتها بل امتلكوها.
رابط دائم: