مرفوض تماما ذلك الجرم الوحشى الذى ارتكبه شرطى أمريكى أبيض، عندما جثم بركبته على رقبة مشتبه أسود، فأزهق روحه. جسدت الجريمة البشعة بشكل نموذجى جانبا رئيسيا من انتقادات اليسار الجديد للنظام الأمريكي. الشرطى الذى يسيء استخدام سلطته يجسد السلطة. بشرة الشرطى البيضاء تجسد هيمنة البيض على المجتمع الأمريكي. الضحية السوداء يجسد الاضطهاد والعنصرية المتأصلة والمتواصلة. صورة واحدة لها قوة تزيد على ألف مقال, فأعطت زخما نادرا لليسار، وأكسبت قضيته وضوحا وشرعية يصعب تحديها، ووضعت اليمين فى موقف دفاعى مرتبك، فأجبرته على التراجع. فى السياسة عندما تجد نفسك وقد وضعت قدمك فوق رأس خصمك، فعليك مواصلة الضغط، وأخذ مطالبك إلى الحد الأقصى. وهذا هو ما فعله اليسار، محاولا تحقيق أكبر قدر من المكاسب قبل أن يتماسك اليمين، ويبدأ الهجوم المضاد. تحولت حركة الاحتجاج ضد عنف الشرطة وعنصريتها بسرعة إلى حركة إسقاط للتماثيل والنصب التذكارية التى تجسد قادة تورطوا فى ممارسات عنصرية. تماثيل الساسة والعسكريين الذين قادوا ولايات الجنوب فى الحرب الأهلية الأمريكية، والرايات والرموز التى تعكس الكونفدرالية الجنوبية كانت هدفا مباشرا لحركة الاحتجاج. لقد تكرر هذا عدة مرات خلال العقد الأخير، بحيث بدا الأمر كما لو كان إسقاط تماثيل تجسد أنصار العبودية هو الرد التلقائى على كل حادث عنف ذى صبغة عنصرية.بعد مقتل جورج فلويد فى شهر مايو الماضي، وصل عدد التماثيل التى تم إسقاطها إلى ما يزيد على المائة. وامتدت الحملة لتصل إلى بلاد أخرى، فأسقط المحتجون تماثيل فى المملكة المتحدة والهند وبلجيكا وجنوب إفريقيا ونيوزيلندا، وتجاوز الأمر رموز العنصرية وتجارة العبيد، ليصل إلى رموز متنوعة، بما فيها أكثر من تمثال للإيطالى كريستوفر كولومبس، أول أوروبى وصل إلى القارة الأمريكية، بسبب ما حدث للسكان الأصليين بعد وصول الأوروبيين, وقامت جامعة برنستون بإزالة اسم ودرو ويلسون، الرئيس الأسبق للجامعة، والرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة من على أحد مبانيها. الرئيس ويلسون هو أحد المؤسسين للتيار التقدمى داخل الحزب الديمقراطي، وصاحب الكثير من الإصلاحات، لكن أيضا كانت له آراء مؤيدة للفصل العنصري، وهو ما اعتبر كافيا لمحو اسمه من قائمة الشرف, بحيث بدا الأمر برمته كما لو كانت هناك حرب تطهير، يحاول خلالها اليسار تخليص أمريكا من رموز يرفضها. بالمقابل، وإن على نطاق محدود، قام محتجون يمينيون بإسقاط وتشويه عدة تماثيل لمناضلين سود فى حركة الحقوق المدنية.تحتل قضية العنصرية مكانة رئيسية فى عقيدة اليسار الأمريكى الجديد، بينما تحتل قضية البيئة مكانة مركزية فى عقيدة اليسار الأوروبى الصاعد. مازالت الطبقة الرأسمالية تمثل هدفا لهجمات اليسار، لكنها لم تعد الهدف الوحيد لتلقى النيران اليسارية، مثلما كان الحال فى الماضي, فالسلطة الحالية فى يد ممثلى طبقة رأسمالية، تتكون من بيض أثرياء، يدمرون البيئة، ويستغلون الفقراء، ويعرضون السود لاستغلال مضاعف. هناك أيضا الرافد النسوى لعقيدة اليسار الجديد، والذى يرى أن السلطة فى يد طبقة رأسمالية تتكون من ذكور ذوى بشرة بيضاء, يدمرون البيئة من أجل الربح. تحالف أنصار البيئة والنسويات والمحاربين ضد العنصرية المعادى لسلطة الطبقة الرأسمالية هو العمود الفقرى لحركات اليسار الجديد فى الغرب. يتراجع نفوذ تيارات يسار الوسط فى بلاد الغرب لمصلحة تيارات يسارية راديكالية متنوعة. فى أوروبا يتراجع نفوذ الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، التى تفهم السياسة باعتبارها نشاطا إصلاحيا متدرجا وتفاوضيا، يمكن من خلاله التوصل إلى حلول وسط بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. قدم صعود الأحزاب الاشتراكية خدمة كبيرة لأوروبا، فقد سمح بتجنب الصراع الطبقى الثورى العنيف، لمصلحة إصلاح اجتماعى تدريجي، يجرى من خلاله تعظيم نصيب العاملين فى الثروة والسلطة. استعاد صعود الأحزاب الاشتراكية الاستقرار لأوروبا، وسمح بمحاصرة الفاشية والنازية، وجعل الديمقراطية بديلا ممكنا فى القارة العجوز، وأعفاها من مخاطر الثورات والحروب الأهلية. وفى أمريكا أنجز الليبراليون التقدميون داخل الحزب الديمقراطى نفس المهمة التاريخية التى اضطلع بها الاشتراكيون الأوروبيون. ترفض تيارات اليسار الجديد المنهج الإصلاحى للأحزاب الاشتراكية، والليبراليين الأمريكيين، وتطرح بديلا عنه منهجا راديكاليا. يرى الاشتراكيون الإصلاحيون المجتمع والسياسة ككيانات معقدة، تتعدد فيها المصالح، وللحقيقة فيها أوجه كثيرة وطبيعة نسبية، والمهم هو أن يتم إدارة المجتمع بطريقة تسمح بالتعايش بين أصحاب المصالح والرؤى المختلفة، دون استبعاد أحد. يرفض اليسار الصاعد النظرة النسبية للحقيقة، وللصواب والخطأ، ويتمسك بمعايير محددة للحقيقة والصواب، ينطلق منها لإطلاق أحكام قيمة أخلاقية على الخصوم بطريقة تتسم بالتعالى والادعاء. ينطلق اليسار الاشتراكى الديمقراطى من رؤية سوسيولوجية تاريخية، تعمل على مواصلة دفع الأمور فى المجتمع إلى الأمام بشكل تدريجي، وفقا لما تسمح به التعقيدات الواقعية, بينما يغلب على اليسار الجديد نزعة حقوقية، تختزل تعقيدات المجتمع والسياسة إلى أحكام مطلقة عن الصواب والخطأ، والحق والباطل.لا تسمح عقائد اليسار الجديد بإدراك الطابع التطورى للمجتمع عبر التاريخ، فبينما كان كارل ماركس يرى أن كل مرحلة تاريخية هى أكثر رقيا وتقدما من سابقتها، وكان يثمن الإنجاز الذى أحدثته الرأسمالية فى تحويل المجتمع من الإقطاع الذى كان قائما قبلها، دون أن ينشغل بإصدار أحكام تقييم أخلاقى على الطبقات والقيادات، فإن مثل هذه الطريقة فى التفكير تبدو غريبة عن أفكار وعقائد اليسار الجديد، الذى ينظر للتاريخ باعتباره مظالم متراكمة، استغل فيها الأقوياء الضعفاء، وحرموهم من الحرية والحقوق. اليمين الجديد فى بلاد الغرب يعزز مواقعه، وكذلك يفعل اليسار, والفريقان يعتبران نفسيهمافى مهمة مقدسة لإنقاذ العالم من شرور الفريق الآخر، فإذا لم تكن هذه حربا ثقافية، فماذا تكون إذن؟.
لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد رابط دائم: