يوجد تشابه كبير بين مسلك كل من إثيوبيا وتركيا فى إدارتهما قضيّتى سد النهضة والصراع فى ليبيا ، إذ يمكن بسهولة ملاحظة كيف عمدت هاتان الدولتان إلى محاولة إبعاد السودان عن مصر فى قضية سد النهضة، ومحاولة إبعاد تونس والجزائر عن مصر فى قضية الصراع الليبي، ومثل هذه السياسة المعروفة بسياسة فرق تسد تمنع بناء موقف عربى متماسك بخصوص كل من القضيتين بأن تلعب على بعض تناقضات المصالح بين الأطراف العربية، وهى على أى حال سياسة قديمة استخدمها معظم القوى الاستعمارية وتجيدها إسرائيل بامتياز. فلو بدأنا بإثيوبيا سنلاحظ أن الموقف الرسمى ركّز على فوائد سد النهضة بالنسبة للسودان من حيث توفير الكهرباء، وزيادة المساحة المزروعة دون التطرق بحرف لمسألة أمان السد التى يحيطها لغط كبير . ومن جهة ثانية دأبت الدعاية الإثيوبية على اتهام مصر بالاستعلاء والعنصرية، كما دأبت على الإشارة إلى أطماع مصرية فى السودان إلى حد الإيعاز مؤخراً بأن مصر تعتزم استعادة حكم السودان، وذلك فى مغالطة تاريخية كبرى تتجاهل أن خروج مصر من السودان تم بشكل طوعى ودون استفتاء على حق تقرير المصير . ومن جهة ثالثة حرصت إثيوبيا على التمييز بين علاقتها الممتازة مع السودان وعلاقتها المتوترة مع مصر ، وشاهدنا قبل أيام ذلك الڤيديو المستفز لفتاة إثيوبية تمسك إبريقا به ماء تملأ به كوباً للسودان قائلة: السودان حبايبي, ثم تضع لمصر قليلاً من الماء فى كوب آخر قبل أن تفرغه فى الهواء وتجففه بغّل شديد وهى تقول: أنا باعطيك بكيفى مش على كيفك . هذا الڤيديو الذى بثته فتاة مجهولة هو فى حقيقته ثمرة لسنوات طويلة من الدعاية الإثيوبية السوداء ضد مصر بوصفها دولة تنكر على الإثيوبيين حقهم المشروع فى التنمية، وتُنازِع إثيوبيا حقوقها السيادية على نهر النيل، وتعبير الحقوق السيادية ورد بكل وضوح فى كلمة ممثل إثيوبيا أمام مجلس الأمن يوم الاثنين الماضى .لكن على الرغم من ذلك فإن الموقف السودانى كان أساسياً فى تعضيد الموقف المصري، سواء من خلال رفض التوقيع على اتفاق ثنائى مع إثيوبيا، أو من خلال رفض ملء السد قبل التوصل لاتفاق قانونى ينظم عملية الملء والتشغيل، وهو ماتم التعبير عنه فى كلٍ من الجامعة العربية ومجلس الأمن . فمع الإقرار بأن المصالح السودانية تتشابك مع المصالح الإثيوبية أمنيًا واقتصاديًا وسياسياً إلا أن للسودان مصالح حيوية مع مصر لا تقل أهمية، هذا فضلا عن تحسب السودان للآثار الضارة التى سوف تنجم عن الإسراع بملء السد .
نأتى لتركيا فنجد أنها ومنذ أن وقعت مذكرتّى التفاهم مع حكومة طرابلس فى نهاية العام الماضى جعلت كلاً من تونس وبدرجة أكبر الجزائر هدفاً لزيارات مسئوليها بدءا بالرئيس التركى نفسه . وكان الهدف هو الحصول على موافقة الدولتين على تدخلها العسكرى فى ليبيا، وما كان هذا الأمر ممكناً، أولاً لأنه لا يعقل القبول باحتلال تركى للجارة ليبيا مهما يكن موقف الدولتين من المشير خليفة حفتر، ودولة مثل الجزائر عانت من الاستعمار الفرنسى على مدار قرن وثلث يستحيل أن تتفهم دواعى الاستعمار العثماني. وثانياً أن تحالفات أردوغان مع الجماعات الإرهابية فى ليبيا تنذر بخطر عظيم على استقرار كل من تونس والجزائر ومازال بهما نشاط لأمثال هذه الجماعات . ولتحقيق هذا الهدف لم يتورع أردوغان عن التحايل والمخاتلة ، فبعد زيارته لتونس ادعى أن الرئيس قيس سعيد اتفق معه على الاصطفاف إلى جانب حكومة السرّاج فخرج بيان الرئاسة التونسية يكذّب اصطفاف تونس مع أى طرف فى الصراع الليبى . وبعد زيارة أردوغان للجزائر ادعى أن الرئيس عبد المجيد تبون حدثّه عن استشهاد 5 ملايين جزائرى أثناء الاحتلال الفرنسى «بقصد الإيقاع بين الجزائر وفرنسا التى تقف بالمرصاد مع مصر لأردوغان فى ليبيا» فما كان من الرئيس تبون إلا أن اتهمه بتحريف كلامه .ومن هنا فمن البدهى أن كل تحرك يقرّب مصر من الجزائر وتونس لا يلقى ترحيباً من تركيا بما فى ذلك تنشيط آلية دول الجوار العربى لليبيا التى أعطاها بيان مجلس الجامعة الأخير أولوية كبيرة . ننبه هنا إلى أن أردوغان لن يتورع عن اللعب على تناقض موقف الرئيس التونسى مع موقف رئيس البرلمان راشد الغنوشى من الصراع الليبي، مع ماهو معروف من انحياز الغنوشى الكامل لموقف حكومة طرابلس ومن ورائها تركيا، وقد انتقد الغنوشى أخيراً حديث قيس سعيد عن الشرعية المؤقتة لحكومة السراج وعن دور القبائل الليبية فى وضع دستور للبلاد، نعم هذا وارد، لكن لتونس رئيس واحد هو الذى ينطق باسمها .
من المهم جدا أن تتحلى مصر بالحذر الشديد من سياسة فرق تسد التى تتبعها إثيوبيا وتركيا وتحاولان بها دق إسفين بين مصر والدول العربية الشقيقة، وهذه السياسة وإن تكن فاشلة حتى الآن لكن مواجهتها تحتاج تحركاً إعلامياً من نوع مختلف، تحركاً نشطاً يرد على كل مزاعم الجوار غير العربى لكن من دون أن ينجرف إلى المهاترات، وكمثال فإن الڤيديو الذى أشرت له عن الفتاة الإثيوبية التى تحرم مصر من المياه يمكن توظيفه بامتياز لكشف أن التعطيش هو ما يراد لمصر والمصريين بعد ملء السد دون اتفاق . إننا نحتاج تدشين صفحات تواصل باللغتين العربية والإنجليزية وترجمة المقالات المصرية الجيدة المتصلة بقضيتّى سد النهضة وليبيا حتى تصل إلى العالم وتشرح له وجهة نظرنا وتدعم موقف المفاوض المصرى الذى يبذل جهدًا خارقاً للدفاع عن أمن مصر القومي. وأختم بالقول إننى كمصرية شعرت بامتنان شديد لمدرسة الدبلوماسية العتيدة التى تكلم باسمها الوزير سامح شكرى فى جلسة مجلس الأمن، حفظ الله بلدى مصر ووقاها كيد الكائدين .
لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد رابط دائم: