منذ بداية النهضة فى عهد محمد على فى أوائل القرن التاسع عشر ونحن نردد جيلا وراء جيل مقولة إن هيرودوت اليونانى هو أبوالتاريخ المصرى وأنه لولاه لما عرفنا جزءا كبيرا من تراثنا ولكن علماء المصريات ومنذ أواسط القرن العشرين كانت لهم كلمة أخرى حيث تأكدوا بالدليل القاطع أن الأب الحقيقى لتاريخ مصر بل واعظم مؤرخيها على الإطلاق هو الكاهن مانيتون السمنودى الذى عاش فى القرن الثالث قبل الميلاد وكتب تاريخ الدولة المصرية بدقة قد يعجز عن الإتيان بمثلها مؤرخون يعيشون بيننا فى القرن الحادى والعشرين.
.........................
ويذكر المؤرخون أنه فى ذروة مجد الدولة البطلمية وإنجازاتها العملاقة قام بطليموس الثانى الذى بنى مكتبة ومنارة الأسكندرية بتكليف الكاهن المصري مانيتون الذى يخدم فى معبد سبننتوس الموجودة بقاياه حاليا على أطراف مدينة سمنود بمحافظة الغربية حاليا بتوثيق تاريخ مصر منذ توحيدها على يد مينا (نارمر) وحتى بداية عصر البطالمة بعد غزو الإسكندر الأكبر لمصر فى منتصف القرن الرابع قبل الميلاد .
وجاء تكليف بطليموس الثانى للكاهن مانيتون السمنودى بكتابة تاريخ مصر لأنه كان شديد الثقافة والاطلاع ويجيد القراءة والكتابة بعدة لغات قديمة وحديثة ومنها اللغة الهيروغليفية وهى المصرية القديمة بكافة لهجاتها علاوة على إجادته للغة الديموطيقية وهى لغة المعابد ورجال الدين واللغة اليونانية لغة البطالمة والمؤرخين اليونانيين، وبالتالى لن يجد صعوبة فى فهم النصوص القديمة الموجودة فى البرديات وعلى جدران المعابد علاوة على أنه كان محل ثقة من بطليموس الثانى لأن والده بطليموس الأول سبق أن كلف مانيتون بالعمل على نشر عبادة « سرابيس» الجديدة التى تربط بين العقائد المصرية والعقائد اليونانية .
صاحب ثقافة موسوعية
ونقل المؤرخون الذين اطلعوا علي كتاب تاريخ مصر الذي سجله مانيتون قوله : «فى النهاية وبعد أن أتقنتُ حينها كل الخطوط المصرية وكتبتُ بها، مع الإغريقية والفينيقية والعبرية والآرامية والسريانية وبعد أن زرت معابدهم جميعاً واطلعت على ألواح الشعوب وما تركوه وكتبوه.. حينها أمرنى الملوك البطالمة بأن أكتب تلخيصاً كاملاً لتاريخ مصر وآلهتها وأسرها منذ (عحا) المحارب الملقب بـ(نعرمر) أو (نارمر)، إلى وصول الإسكندر لمصر».
وانكب مانيتون على العمل مستعينا بالنصوص الموجودة على جدران المعابد المصرية والبرديات المحفوظة فى تلك المعابد حتى نجح فى توثيق التاريخ المصرى فى كتاب ضخم عرف باسم «ايجيبتياكا» Aegyptiaca، والذى سجل فيه أسماء الحكام والأسر الحاكمة وأعمال كل حاكم منذ توحيد القطرين على يدى نارمر ووصولا لسنة 323 قبل الميلاد وقسم مانيتون الاسر ال 30 التى حكمت مصر إلى ثلاثة أقسام هى الدولة القديمة، والدولة الوسطى، والدولة الحديثة وهو التقسيم الذى يعتمد عليه علماء المصريات والمؤرخون حتى الاّن .
احتراق مكتبة الإسكندرية
ورغم أن «مانيتون» كتب تاريخ مصر بحرفية ومهنية توازى مايفعله مؤرخو القرن الحادى والعشرين بكل مايمتلكونه من تكنولوجيا وعناصر مساعدة إلا أننا لم نعرف الكثير عن مانيتون نفسه فلا توجد معلومات عن سنة ولادته أو وفاته وذلك لسبب بسيط هو أن النسخة الوحيدة لكتابه عن تاريخ مصر أحترقت مع مكتبة الإسكندرية أثناء الغزو الرومانى لمصر عام 47 قبل الميلاد ويقول بعض المؤرخين إنه كانت هناك نسخة أخرى فى معبد سيرابيوم بالإسكندرية جرى حرقها فى الفوضى التى عمت مصر بعد تحول الرومان المحتلين لمصر للمسيحية وإعتبار كتب التاريخ والفلسفة نوعا من الهرطقة ورغم ذلك فإن التاريخ يذكر أيضا أن رجال الدين المسيحى من أقباط مصر أبقوا على كتاب آخر لمانيتون هو كتاب «الجباتا» الذى يضم أسفارا تشبه أسفار الكتب المقدسة وتتحدث عن الخلق والتكوين والفيزياء والأدب .
يوسيفوس اليهودى ناقلا عنه
ويعود الفضل لمعرفتنا بتاريخ مصر كما دونه مانيتون فى «ايجيبتياكا» Aegyptiaca إلى المؤرخين الأجانب الذين اطلعوا عليه واستعانوا به ونقلوا منه
ومن هؤلاء المؤرخ اليهودى يوسيفوس فلافيوس كما تسميه النصوص اللاتينية والمعروف أيضا باسم يوسف بن ماتيتياهو باللغة العبرية حيث عاش فى القرن الأول قبل الميلاد والف كتابا اسماه «الرد على إبيون» للدفاع عن اليهود ضد ما كتبه الكاتب السكندرى أبيون وهاجم فيه اليهود بكل عنف فحاول يوسيفوس ان يمجد بنى جنسه فقال إن الهكسوس هم اليهود ونقل كثيرا من كتاب مانيتون للتدليل على صحة مزاعمه.
وثانى أشهر المؤرخين الذين نقلوا عن مانيتون السمنودى هو المؤرخ يوليوس افريقيانوس او يوليوس أفريكانوس والذى عاش بين القرنين الثانى والثالث ميلاديا وكتب تاريخ العالم من بدء الخليقة حتى ميلاد المسيح عليه السلام معتقدا ان الخليقة بدأت قبل المسيح بـ 5500 سنة فقط وحمل كتابه اسم «الحوليات» واعتمد فى الكثير من معلوماته على ماكتبه مانيتون السمنودى عن تاريخ مصر، وبالتالى اعتبر أن أول دولة موحدة ظهرت هى الدولة المصرية كما جاء فى كتابات مانيتون .
المتحف البريطانى ومانيتون
ويصف الدكتور وسيم السيسى عاشق التاريخ المصرى القديم وأبرز المتبحرين فيه الكاهن مانيتون السمنودى بأنه الأب الحقيقى للتاريخ المصرى وليس المؤرخ اليونانى هيرودوت الذى لم يدون سوى معلومات عن رجل الشارع المصرى وعاداته وتقاليده، بينما سجل مانيتون أو مانيتو كما يلفظ بعض المؤرخين اسمه التاريخ القديم الحقيقى لمصر، مشيرا إلى أنه عندما زعم مسئولو المتحف البريطانى أن تاريخ بابل أقدم من تاريخ مصر بنحو قرن وأن تاريخ بابل يعود إلى 2300 سنة قبل الميلاد بينما يعود تاريخ مصر ل 2200 سنة فقط جاءت نتائج فحص الآثار المصرية بالكربون 14 لتثبت كذب ادعاء مسئولى المتحف البريطانى وصحة ماذكره مانيتون العظيم وأن تاريخ مصر أقدم بأكثر من 12 قرنا .
كتاب الأسفار المصرية (الجبتانا )
ومن بين ثمانية كتب يعتقد المؤرخون أن مانيتون أنجزها فى حياته لم يصل لنا كاملا أو شبه كامل إلا كتاب «الجبتانا» والذى يصفه البعض بأنه عبارة عن أسفار التكوين المصرية، حيث دون فيه بأسلوب رائع النصوص والأسرار المتجلية عن الخلق والتكوين والفلسفة وقد بقى هذا الكتاب لأنه جرت ترجمته إلى لغات عدة، ويضم ستة عشر سفراً تناقلها رجال الدين المسيحى شفاهة لقرون عديدة لأنها تتحدث عن النشأة والتكوين .
ولأن مانيتون كاهن وله مكانة بارزة فى الحياة الدينية بالمعابد التى كانت دراسة الكهنة فيها توازى الدراسة فى أرقى الجامعات والمعاهد العلمية فى عصرنا الحديث ولايلتحق بها إلا الأذكياء والموهوبون وفيها يتم فتح أبواب العلم والإبداع لهم فقد ذكر أنه بدأ الكتابة بطلب من الإله «رع» مؤكدا أنه أتاه فى الرؤيا راكبا حصانا بأجنحة ذهبية، ليبدأ بعدها بالكتابة.
وكما قسم مانيتون التاريخ المصرى إلى 3 أقسام و30 أسرة فقد قسم الجبتانا إلى 16 سفرا وإصحاحا منها سفر المهد، و سفر التثنية، إلى الاستئناس والتدجين، وسفر المسوخ وشياطين الظلام، إلى سفر القمح والكشري، والمتحدون بالقلب واللسان، أى «جذور الوحدة المصرية» .
ويقول مانيتون عن نفسه فى «الجبتنا» «أنا مانيتون السمنودى ولا أعرف عن طفولتى سوى ما سمعته من معلمى وأبى الروحى كاهن معبد مدينة منديس، الذى قصَّ عليّ قصة طفولتي، فقال: سلمك لى فلاح من البحيرات الشمالية وأنت فى الخامسة من عمرك، وكانت تبدو عليك ملامح الذكاء والنجابة، ولما سألوا الفلاح من أكون، قالوا إننى ابن الإله حورس الذى زاره وسلمنى له وأوصاه برعايتي. منذ تلك الحكاية أصبحتُّ ابناً لمعلمى الذى علمنى القراءة والكتابة بعدة لغات، كما علمنى الطبابة والسحر والكهانة».
رابط دائم: