رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الاختيار هو: الله والوطن معا

مادام ثار الجدال حول تعريف الشهيد: أهو الجندي الذي يدافع عن وطنه الذي يعشقه أم الجهادي الذي يدافع عن دينه كما يفهمه. وكذلك حول مغزي الشهادة: أهي في سبيل الله فقط أم في سبيل الوطن أيضا؟. وفي اعتقادي أن كل ما هو في سبيل الوطن هو أيضا في سبيل الله، فالدين ليس مجرد عقيدة تحلق في الفضاء، بل عبادات لا تقوم سوي في أرض، ومعاملات لا تكون إلا بين الناس، ولذا فالدفاع عن الدولة التي تضم الأرض والناس هو عينه الدفاع عن دين هؤلاء الناس.

تاريخيا، ولزمن طويل، كان خط التقسيم الأساسي بين الناس هو أديانهم، فلم يكن متصورا أن تنقسم الجماعة الواحدة بين أديان مختلفة، فكان الدين هو نفسه الوطن، وأن ترتد عن العقيدة يعني أن تخون الوطن، حتي انعقدت معاهدة وستفاليا 1648م، التي أسست للدولة القومية الحديثة، ونقلت أوروبا ثم العالم بعد ذلك خطوات كبيرة علي صعيد علاقة الإنسان بالأرض, والأرض بالسلطة، والسلطة بالدولة، بفعل نظريات العقد الاجتماعي التي أعادت تأسيس السلطة السياسية باعتبارها نظاما دنيويا ينبت من الأرض ليتحدث باسم الناس ومصالحهم، وليست نظاما أخرويا يتنزل من السماء ناطقا باسم حق إلهي مقدس. بل إن الدولة الوطنية نفسها، بما تملكه من حقوق السيادة علي أرضها ومواطنيها، باتت هي دين الحداثة، ومن ثم صارت المجتمعات الحديثة تقدس أوطانها مثلما كانت المجتمعات التقليدية تقدس آلهتها، خاصة في تلك اللحظات الخطرة من أعمارها.

بالطبع يبقي الله هو المطلق الذي يقاس إليه ولا يقاس إلي سواه، ولكن يبقي الوطن حاملا قبسا من ذلك المطلق، مجسدا لبعض المثاليات العليا التي يعنيها الله، ولو عبر التلميح لا التصريح. فالأوطان تضع دساتيرها بتوافق جموع مواطنيها، واستلهاما لركائز وجودها، ليصبح دستور الوطن بمثابة كتابه المقدس، إنجيله أو قرآنه، يستلهمه في صنع قوانينه، ويحتكم إليه في حل خلافاته، والويل لكل من أهدر نصوصه، فالخروج عليه هتك لروح الجماعة وعدوان علي ضميرها، هرطقة سياسية تشبه الهرطقة الدينية. الأولي خيانة للوطن والأخري إلحاد بالله، وكلتاهما ترتب أشكالا مختلفة من الحرمان، روحيا أو جسديا، قدسيا أو دنيويا. وأيضا صارت أعلام الدول مثل مآذن حديثة، تشبه أو توازي وأحيانا تتفوق علي نظيرتها في المعابد والكنائس والمساجد، ترتفع فوق كل الشرفات وعلي كل المؤسسات طوال أيام الأسبوع، يتم التلويح بها في الأعياد الوطنية، وفي ذكري الانتصارات العسكرية، وأحيانا الرياضية، مثلما تُنكس في أيام الهزيمة والانكسار تعبيرا عن الحزن والحداد. وكذلك تصنع الأوطان لنفسها أناشيد تتغني بها، وتضع لها موسيقي تشبه الترتيل القرآني والترانيم الكنسية، تشنف الآذان وتثير الخشوع في جموع المواطنين فتهتز أبدانهم وقد تطفر دموعهم بعزف السلام الوطني لبلدانهم، مثلما تتساقط دموع المؤمنين بتلاوة النصوص المقدسة في أديانهم.

وعلي هذا صارت الشعوب تبجل مفكريها الكبار الذين يرسمون معالم شخصية أوطانهم، ويصوغون السرديات الطويلة عن تاريخهم، كما تُخلد شعراءها وفنانيها المبدعين الذين ينشدون عنها ملاحم كبري تحكي أمجادها القديمة أو يجسدون أعمالا تتغني بحضاراتها العتيقة، فتصبح الأوطان أساطير حية، تحمل أبعادا خيالية وعاطفية، بقدر ما تنطوي علي حقائق عقلية وتاريخية، ينصاع الجميع لها احتراما للدماء المراقة علي مذابحها، والتضحيات المبذولة لضمان خلودها، من أقدم العصور إلي أحدث الأزمنة، فيصير الأبطال القدماء جدا، كالمحدثين جدا، مثل حبات لؤلؤ تنتظم في عقد واحد، يزين رقاب أبنائها، ويثير الفخر لدي شبابها، فأولئك الرجال الكبار والأبطال المخلدون هم الذين يحملون البوصلة، ويمنحون المعني، ويؤكدون الهوية في زمن التيه ولحظات الخطر. وحتي الذين لا يعرف الناس أسماءهم، صار قبر الجندي المجهول معلما عليهم، يحُج إليه الناس في المناسبات المختلفة، امتنانا لهم وتقديرا لتضحياتهم.

أما مفهوم السيادة الوطنية، بما يعنيه من كلية الأرض وعلو الإرادة، فينطوي علي قيمة رمزية، غالبا ما تنعكس في طقوس جمعية تشبه العبادات الدينية، وتعمل مثل الصمغ اللاصق الذي تترابط به الجموع، ويتماسك بفضله الكيان الجامع، وتُستفز له النخوة، لتصبح التضحية في سبيله أمرا طبيعيا وممكنا، فالشهادة في سبيل الوطن كالشهادة في سبيل الله، مصدر إلهام وخلود وحياة، فالوطن لا يكون كبيرا ولا خالدا إلا إذا صار بوتقة لمعني يتجاوز الأفراد؛ مثلما يسمو الله علي الوجود، فالله خالق الكون والإنسان، والوطن رب أبنائه في كل زمان ومكان.

بعد أن صارت الوطنية دينا للحداثة، كان محتما أن تُقدس حدود الأوطان، لتضع فاصلا بينها وبين جيرانها، أصدقاء كانوا أم أعداء، فالحدود علامات كأبواب البيوت، الحدود تفتح علي التراب المقدس لدي جموع الناس، والأبواب تفتح علي الحرمات الخاصة بأهل البيت, ولهذا صارت حدود الأوطان مثل جلد الإنسان أو جلدة كتابه المقدس، توراة أو إنجيلا أو قرآنا، فجميعها يفتح علي باطن الإنسان وعوالم الإيمان، حتي صار التفريط فيها عارا لا تبرره الحاجة ولا يمحوه الزمان. ولذا يستعير الناس رغبتهم في التضحية علي مذبح أوطانهم ضد الأعداء من روحانية الجهاد ضد الكفار، حيث يبني جموع المواطنين تضامنهم المشترك بحسب قدرتهم علي ماتمثل في الدين من قدرة علي تكتيل جماعة المؤمنين، ذلك أن مشاعر الأخوة في الله تشبه مشاعر الثائرين للوطن، يتجمع هؤلاء تحت راية الإيمان، ويتضامن أولئك تحت راية الانتماء؛ الوطنيون لإعادة بناء بلدهم بالصورة التي يحلمون بها بعد أن أرهقه المتسلطون عليه، والمؤمنون للدفاع عن دينهم الذي يعاديه الملحدون، أو يفسده المنافقون. أما الطقوس الثورية في الحشد والتعبئة فهي أفضل تعبير عن ذلك الرابط الخفي بين الشعور الوطني كـ (دين مدني) وبين الدين كـ (وطن روحي)، فالحماس الوطني هو مشاعر دينية في الصميم لكنها أخذت طابعا دنيويا, فبدلا من انتظار المؤمنين (الأبرار) للحياة الفاضلة في الملكوت السماوي بعد حين، يسعي المواطنون الأحرار لتجسيد تلك الحياة الفاضلة الآن، علي هذه الأرض، لهذا استحقوا محبة جميع أهلها واحترامهم، فضلا عن رحمة الله وعنايته بهم.

[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: