أعترف بأنه صديق العمر، وأيقونة أساتذة علم السياسة،أُفَضِلُ له لقب العميد على لقب الوزير لأنه أضاف إلى العمادة مكانة وقيمة، بينما لم تضف إليه الوزارة فقد كان أكبر منها وأعلم، وهاهو يستعيد عافيته الفكرية ويصدر كتابه الأخير بعنوان الانتقال إلى الديمقراطية.. ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين؟ وقد نشرته له سلسلة الكتب الشهرية الرصينة التى يصدرها المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب بالكويت تحت عنوان عالم المعرفة، وفى هذا الكتاب يشهر الدكتور عليَّ الدين هلال قلمه متسائلًا فى البداية لماذا سعى إلى تأليف تلك الفصول الرائعة خصوصًا أن عشرات الكتب صدرت فى هذا الموضوع بلغات مختلفة،وهو يستدرك قائلًا: إنه كتاب موضوعه الخبرات الدولية للانتقال الديمقراطى ولكن هدفه فهم العوامل التى أدت إلى تعثر الانتقال إلى الديمقراطية فى العالم العربى ولا يمكن إدراك ذلك إلا بمقارنة وتحليل تجارب الدول المتعددة والمجتمعات المختلفة، كما أن الجديد هو أن الكتاب يتساءل عن ماهية تلك الديمقراطية التى ننتقل إليها، ويضيف الدكتور هلال أن كتابه يصدر بعد ما يزيد على ربع قرن من ثورات دول شرق أوروبا التى أدت إلى سقوط عشرات النظم السلطوية وإقامة نظم ديمقراطية بديلة إذ إن تلك الدول التى سادتها نظم الحزب الواحد شهدت الانتقال إلى الديمقراطية بينما راجعت دول الديمقراطية الراسخة الممارسات السياسية لديها وأداء مؤسسات الحكم فيها بهدف جعلها أكثر تعبيرًا عن واقع العصر،ولقد ساق الدكتور العميد الذى يرتبط اسمه بقفزة واسعة فى تاريخ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة فى أثناء عمادته لها نماذج من تجارب الدول وأحسب أن أحداث الربيع العربى ونتائجها المتفاوتة وآثارها المرتبكة قد انعكست على سطور الكتاب،وتستعرض الصفحات الأولى تعريفات مختلفة للنظم الديمقراطية بدءًا من كتابات مفكرى نظرية العقد الاجتماعى خصوصًا الإنجليزى جون لوك الذى دعا إلى المساواة والتسامح والحرية الفردية والفرنسى مونتسكيو الذى نادى بنظرية الفصل بين سلطات الدولة الثلاث وكذلك مواطنه الآخر جان جاك روسو الذى تحدث عن القيادة الشعبية والإرادة العامة، فالنظم الديمقراطية الغربية لم تنشأ بين عشية وضحاها بل ارتبطت بتحولات ثقافية وسياسية واجتماعية وحروب وثورات إذ أنه فى ظنى شخصيًا أن الثورة الصناعية كانت هى المخاض الطبيعى لمفهوم المشاركة السياسية الواسعة وبالتالى لميلاد النظم الديمقراطية الكبري، وقد استعرض أستاذ أساتذة العلوم السياسية فى الوطن العربى قيم الديمقراطية بدءًا من التعددية مرورًا بالحرية وصولًا إلى العدل ويكاد يقترب فى بعض تعريفاته إلى ما ذهب إليه شراح القانون الدستورى الحديث من أن الديمقراطية هى دولة سيادة القانون، والرائع فى هذا الكتاب أنه لا يسوق عبارات نظرية مطاطة بل هو يفاجئ القارئ بأمثلة تطبيقية لجميع النماذج من الدول المختلفة ثم يرتفع المؤلف أكثر ليغوص فى جوهر الفكر الديمقراطى ويمس الأسس الفلسفية لليبرالية التى تقوم على افتراض أساسى يضع حرية الاختيار التى نقلت مفهوم حرية المستهلك من مجال الاقتصاد إلى المجال السياسي، مؤكدًا أن جوهر الفكر الديمقراطى فى النهاية يصب فى دائرة الحقوق بين البشر حيث يتساوون فى فرص الحياة من خلال المشاركة الفاعلة، بينما يرد الليبرالية مرة أخرى إلى ميلادها فى القرنين السابع والثامن عشر من خلال مخاض حركة الإصلاح الدينى والثورة الفرنسية ثم يصل الكاتب الكبير إلى مرفأ الأمان عندما يتحدث عن مستقبل الديمقراطية قائلًا: يسود الاعتقاد بين البعض بأن الديمقراطية علاج لكل الأمراض والعلل الاجتماعية وأن النظام الديمقراطى هو البلسم الشافى لحالة التخلف بكل ما فيها من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية غير أن الحقيقة خلاف ذلك لأن الديمقراطية مجموعة من القيم والمؤسسات تتأثر بسياق المجتمع الذى تنشأ فيه، وشتان بين أداء المؤسسات الديمقراطية من أحزاب وانتخابات وبرلمان وحكومة فى الدول ذات الديمقراطيات العريقة ونظائرها فى كثير من الدول الجديدة فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ثم يناقش المؤلف طرحًا سيطر على كثير من الذين درسوا التاريخ الديمقراطى فى التجارب المختلفة والذين قالوا فى النهاية إن أسوأ الديمقراطيات أفضل كثيرًا من أصلح الديكتاتوريات، ثم يعرج د. هلال على (أزمة الديمقراطية) ومن مظاهرها انخفاض المشاركة فى الانتخابات العامة وتراجع عضوية النقابات والأحزاب وتدهور هيبة السياسيين ومكانتهم فى المجتمع وضعف الانتماء الحزبى وعدم الثقة فى المؤسسات العامة والشعور بأن السياسة هى نشاط يتسم بالخداع وخدمة المصالح الشخصية، ويسجل فى ختام صفحات كتابه القيم والأمين قوله: إن الديمقراطية ليست مجموعة قوانين ومؤسسات وإجراءات فقط بل هى أيضًا ثقافة وأسلوب حياة ونمط فى الإدارة ولذلك لم يكن غريبًا أن يقول الرئيس الأمريكى الثامن والعشرون وودرو ويلسون إن النظام الديمقراطى هو أصعب نظام للحكم، ولكنه مع ذلك يبقى أفضل نظام ابتكره البشر لإدارة أمور المجتمع والدولة ويعود ليؤكد مرة أخرى أن أسوأ الديمقراطيات أفضل بكثير من أفضل الديكتاتوريات وذلك لأن عبقرية المؤسسات الديمقراطية تتمثل فى أنها قادرة على التعبير عن المصالح المختلفة فى المجتمع وإدارة الخلافات بينها بطريقة سلمية وإعطاء كل طرف نصيبه وأنها تمتلك القدرة على تصحيح الذات والمراجعة، ولعلى أقول الآن إن هذا الكتاب من بين كتب الدكتور هلال القيمة والرصينة يتميز بدقة التوقيت وسلامة العرض ووضوح الرؤية، لأنه يقدم إجابات شافية عن كثير من التساؤلات المطروحة، وفى ظنى أن الدكتور عليَّ الدين هلال الذى قرأ على امتداد الستين عامًا الماضية مئات الكتب فى علم السياسة وكتب عشرات منها فى ذات التخصص إنما يضيف اليوم إلى رصيده العظيم جوهرة جديدة ليؤكد لنا نحن زملاءه ورفاق عمره أنه بحق أيقونة علماء السياسة وأكثرهم غزارة فى الإنتاج وقدرة على الجمع بين الفكر والحركة فى مجالات العلوم الاجتماعية.
لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى رابط دائم: