إتقان العمل فى المحن يزيد الأجر.. ومخالفة سبل الوقاية إثم
رغم استمرار الوفيات والإصابات بفيروس «كورونا»، وعدم التوصل إلي مصل وقائي أو علاج ناجع من هذا الوباء، فإن العالم قرر التعايش معه، والتخفف تدريجيا من قيود وإجراءات الحظر التي انتهجتها الدول كافة قبل قرابة ثلاثة أشهر، لما صاحب هذه الإجراءات من جمود بكثير من النشاطات وخسائر اقتصادية فادحة تعجز عن تداركها كبريات دول العالم.
عودة الحياة إلي طبيعتها مع «كورونا» قرار إجباري ـ إذن ـ لجأت إليه جميع دول العالم لمواصلة الحياة، والوفاء بمتطلبات الشعوب، ولاسيما في ظل مؤشرات باستمرار الوباء لفترة مقبلة غير محددة.
في مواجهة ذلك يؤكد علماء الدين أن الأوضاع الاقتصادية المتردية في العالم باتت تفرض علي الجميع التعايش مع الوباء واستئناف الحياة بشكل تدريجي.
ويشدد العلماء علي ضرورة حفظ النفس كمقصد تشريعي مهم، ويقولون إن صحة المواطن أمانة في عنقه، وإن الوقاية مسئوليته وإن كل من يخالف أسباب الوقاية يكون آثما، خاصة أنه مع تخفيف القيود سيعود الاكتظاظ والتزاحم في أماكن العمل، مما يهدد بمضاعفة الإصابات والوفيات حال غياب الوعي وعدم الوقاية.
يقول الدكتور عبدالغني الغريب طه، رئيس قسم الفلسفة والعقيدة، بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، إن الجائحة التي يمر العالم بها حاليا أصابت الكبير والصغير، وأسكنت الناس بيوتهم، وأفقدت الآلاف وظائفهم، وجعلت الملايين رهينة الحبس الوجوبي، والخوف والترقب من المجهول. بل وشهد العالم علي مدي الشهور الماضية استعدادات غير مسبوقة، وإجراءات واحترازات وقائية غير معهودة. لكن استمرار الوباء لا يعني أن تتوقف الحياة. فليس معني وجود جائحة أن نغلق الأبواب جميعها، وننتظر الأرزاق من غيرنا، ولاسيما أن الجائحة عامة، فما أصابنا أصاب غيرنا، وما نعانيه يعانيه غيرنا، كما أنه ليس لنا أن نوقف حياتنا انتظارا للموت. فهذا مجافاة للسنن الإلهية، فالإسلام دين يراعي ضروريات الحياة البشرية بتنوعها، لذا يجب علينا أن نأخذ بجميع أسباب البقاء وعمارة الأرض والحفاظ علي النفس الإنسانية، لذا قال النبي صلي الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإذا استطاع أن يغرسها فليغرسها».
ويتابع: من ثم وجب علي جميع الهيئات والشركات والوزارات أن تلتزم بالإجراءات والأساليب الوقائية بما يحفظ للعاملين صحتهم وسلامتهم، مع رفع معايير الوعي لدي العمال والموظفين للخروج من تلك المحنة، وفي المقابل يجب علي العاملين أن يحفظوا مساحات الأمان واشتراطات السلامة والصحة، والأخذ بمتطلبات الحيطة والحذر، والالتزام بالتعليمات من أجل استمرار إنتاج الحياة، ولنعبر ببلادنا إلي بر الأمان.
ويناشد الغريب موظفي الدولة أن يراعوا ضمائرهم ويتقنوا أعمالهم، فقد قال صلي الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان علي كل شيء»، وألا يستغل أحدنا وجود وباء للتهرب من العمل بالتمارض وإدعاء الإصابة والعدوي للحصول علي إجازة أو نحو ذلك، كما ينبغي علي الجميع التعاون وإحسان الظن وعدم التشكيك.
ويضيف: إذا كنا نشتاق بلهفة لعودة الصلاة في المساجد، فإنه ينبغي حال السماح بذلك أن نلتزم بالإجراءات الوقائية التي تفرضها الدولة في هذا الشأن، وألا ننساق وراء عواطفنا بالتزاحم وإهمال التعليمات والضوابط، فالمسلم يجب أن يكون قدوة حسنة لغيره في النظافة والوقاية والانضباط وضبط النفس في كل الأمور.
وفي سياق متصل، يقول الدكتور عبدالوارث عثمان، أستاذ الشريعة الإسلامية، بجامعة الأزهر، إن جائحة «كورونا» غيرت اهتمام العالم وأولوياته وقد عجز عقل بعض الدول الكبرى الذي ابتكر الآلات الفتاكة المدمرة العجيبة عن إيجاد مصل يوقف انتشاره وامتدداه وتوغله ليزهق العديد من الأرواح البشرية في كل دول العالم بلا تفرقة بين عالم أول أو عالم ثالث ومن دون عنصرية أساسها الدين أو العرق أو اللون ولم يقف عند ذلك فحسب بل أوقف النشاط البشري بكل أنواعه وأقعد الجميع في منازلهم بعيدا عن أعمالهم و دور عباداتهم وتجمعاتهم وغير نظام حياتهم ورتبها من جديد وفق أهميتها، وشدة احتياجاتهم إليها بحيث يتجنبون الإصابة بالفيروس الذي حل كبلاء مخيف رغم أنه ليس الوباء الأول في تاريخ البشرية فبين الفينة والفينة تخرج هذه الأوبئة علي البشرية كالطاعون والكوليرا وغيرهما.
ويوضح أن العالم أمام الظروف الضاغطة التي صنعها «كورونا» ليس أمامه خيار سوي استئناف حياته الطبيعية مع مراعاة إجراءات الوقاية والتقليل من احتمالات الإصابة، ولنتعلم من هذا الوباء الذي كشف عجز الجميع قيمة التعاون بين الناس وقيمة العمل واكتساب الرزق والسعي من أجل لقمة العيش الحلال ومراقبة الله عز وجل في كل شيء، يقول الله تعالي في الدعوة إلي التعاون: «وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان».
فالعمل درب من دروب الطاعة والتقرب الي الله تعالي، ولاسيما في ظل هذه الظروف التي يتعرض فيها العامل للإصابة، والمسلم مأجور علي كسبه الحلال أيا كان نوع العمل، والأجر في الدنيا لا ينفي ان يكون له الأجر الذي يفوقه في الآخرة، إذا أتقنه وأخلص فيه وأداه علي النحو المطلوب، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (التاجر الصادوق مع الكرام البررة).
ويتابع: من الصدق في العمل عدم تعطيل المنتفعين به وتضييع أوقاتهم وتفويت الفرص علي الناس بأي عذر من الأعذار، ولا يصح للموظف والعامل وغيرهم ممن وكلوا بقضاء مصالح الناس ويتقاضون علي ذلك أجرا أن يتكاسلوا عن القيام بأعمالهم فقد استعاذ النبي صلي الله عليه وسلم، من العجز والكسل وغلبة الدين وقهر الرجال، ثم إن من أخذ الأجر حاسبه الله علي العمل، أي علي دقته وإتقانه ونفعه، ولا يصح للموظف والعامل أن يركن للكسل أو يتمارض ثم يطلب الرزق.
ضرورة يفرضها الواقع
من جانبه يقول الدكتور ناصر محمود وهدان أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة العريش إن التعايش مع الوباء في ظل استمرار الإصابة به ضرورة فرضها الواقع، وليس دفعا بالنفس للهلاك، فماذا لو انتظرنا جميعا في بيوتنا حتي زوال الوباء، من يزرع ومن يصنع، ومن يبني، ومن يأتي لنا بأرزاقنا وأقواتنا والخدمات الأساسية التي لا تستمر الحياة دونها!.
ويشدد علي ضرورة الالتزام بسبل الوقاية، مشيرا إلي أن نفس الإنسان التي بين جنبيه ليست ملكا له يكرمها أو يهينها، بل هي ملك لله عز وجل أمانة عند صاحبها إلي أن يقضي الله أجله، لذا فيجب أن ينظر كل مواطن للضوابط الصحية علي أنها لمصلحته هو بالأساس، وليس لمصلحة الدولة، لذا فمن واجب المواطن أن يراعي هذه الضوابط، ليس لمجرد الالتزام بالقواعد أو هروبا من قيمة الغرامة والمخالفة، بل للوقاية والحفاظ على النفس والغير من وباء لم نصل إلي علاج له بعد.
ويدعو وهدان إلي التوسع في الوسائل التكنولوجية لإنجاز ما يمكن من أعمال عن بعد، وتيسير أصحاب الأعمال علي موظفيهم وعمالهم في أداء أعمالهم بما يحافظ علي العامل وتسيير العمل في آن واحد.لافتا إلي أن العامل الذي يتقن عمله معرضا نفسه للخطر مع حرصه علي الأخذ بأسباب الوقاية والنجاة، لا يستوي بالمتقاعس الذي يتهرب من العمل خشية الإصابة والعدوي، ولا يستوي أيضا بمن يعمل ويهمل الأسباب، فالأول بلا شك يعظم أجره، وقد يؤجر عليه مرتين، مرة لإتقانه العمل، ومرة علي أخذه بسبل الوقاية وعدم تهاونه في ذلك.
كما يدعو إلي التعامل مع المرض وأعراضه بكل شجاعة ووعي من قبل المواطنين، فمن استشعر أعراضا مشابهة للمرض عليه إعلان ذلك فورا وسلك الطريق المناسب لذلك، سواء بالعزل المنزلي أو الحجر الصحي بالمستشفي، ولا يمنعنا الحرج الاجتماعي عن الإعلان ذلك، لأن التستر علي المرض أو محاولة إخفائه وإنكاره خطر كبير بالمصاب ومن حوله، لأنه سيؤدي إلي تفشي الإصابات بين قطاع كبير من الناس دون أن يدري الجميع.
ويختتم حديثه محذرا من محاولات التشكيك في جهود الدولة، والانسياق وراء الشائعات والمعلومات مجهولة المصدر، ولاسيما التي تتعلق بالوباء وانتشاره وظهور أدوية وقائية أو علاجية، وداعيا إلي التثبت من المعلومات والاقتصار علي المصادر الموثوقة وأهل التخصص.
ويحذر من استغلال من يعرفون بـ»تجار الأزمات« حاجة الناس للمطهرات والكمامات والقفازات باحتكار هذه الاشياء أو بيعها بأثمان مبالغ فيها، مشددا علي أن المرحلة تقتضي التلاحم والتكافل والتكاتف وليس الاستغلال والاحتكار، والمتاجرة باحتياجات الناس وأقواتهم.
رابط دائم: