أنا رجل عادةً ما يميل للصمت، وجاءت الكمامة ليزداد صمتا، ويبدو أكثر بُعدا. لكنى لا أدرى لماذا أستيقظ اليوم وقلبى يريد أن يحكى:
إنى, خلف صمتى, أحبكم، ورغم الكمامة الطبية ومراعاة البُعد الاجتماعى, تختلط أنفاسى بأنفاسكم، لأننا نتنفس نفس الأشواق؛ نفس الحلم بعالم سعيد، يسوده الحب والعدالة والسلام والأمان. حتى الخُطاة منا والعتاة، وحتى الأدنياء والفاسدون، بعضهم يضمر سراً فى أعماقه نفس الشوق لذلك العالم/الحلم، وإن كانت أفعالهم تحول دون أن نراه واقعاً، بل وتأتى بدلاً منه كوابيس! تتعدد الكوابيس وتنتشر الأوبئة، منها ما هو من صنع الطبيعة ومنها ما يجلبه الإنسان على نفسه .وفى هذا الكابوس، أقف بعيداً، لا أستطيع الاقتراب، إلا أن قلبى يخفق تحت ضلوع أحبائى، يحزن معهم ويفرح، يغضب ويخاف ويشتاق، وإن كان وجهى، بالكمامة أو بدونها، يبدو حيادياً بارداً، أو غائباً فى عالم بعيد. إن كنت لا أستطيع الاقتراب، أو حتى لا أريد، فذلك لأن المسافة فى الأصل ملغاة بينى وبين ما حولى، ومن حولى. فخلف الحياد البادى، وراء كمامة القماش أو قناع اللامبالاة، يتألم قلبى ويتكلم، رغم صمتى وانطباق شفتِىّ.
نعم، لقد نمت وتركتُ الطعام يحترق.. والعالم يحترق. لكن نسيانى وصمتى لا يعنى أننى لا أهتم. فأنا أحترق معكم، وأختنق طلباً للهواء. لا، ليست الكمامة, تلك القطعة من القماش, جفاءً وانزواءً، ولا ادعاءً بأن الآخرين موبوؤون ونحن نخشى أن نُبتلى ببلواهم. لا، وليست صمتاً مضاعفاً وإمعاناً فى الصمت, بل هى شارة، وأمارة- ونحن جميعاً نرتديها- أننا متماثلون؛ وإشارة إضافية إلى أن الفروق بيننا مصطنعة, أو جرّها علينا الطمع. جاءت الكمامة - حين أضفناها لملامح التشابه المألوفة من أنف وعينين وأذنين وشفتين - تأكيداً أننا بصمات مختلفة لنفس الأنامل .فهى ليست إذن حاجزاً بين المرء وأخيه, بل هى تذكرة بأننا كبشر متماثلون، وصغار الشأن جداً، فلا مجال إذن للتعالى والتأله فيما بيننا.
ورغم ضعفى وضعفكم، أو بسببه، أحبكم؛ رغم يقينى بأن هذا الوباء سيقيم بعض الوقت ويرحل، دون أن نتغير جوهرياً: لن نُشفى من الأنانية والطمع, بل ربما سيزيدان. أعلم ذلك جيداً، لكنى أعلم أيضاً أن فكرة الحق، ومفهوم الخير والعدل والجمال، وذلك الحنين إلى عالم أفضل، كلها ظواهر جلبها الإنسان إلى الأرض، ولم يكن لها وجود قبله، تماماً كما أن نشرات القتل اليومية على الشاشات لم تقترفها كائنات هبطت إلى الأرض من كواكب أخرى بأطباق طائرة!.
وسواء أكنا ملائكة أم قردة ، لقد أوحشتنى الحياة والناس. أتمنى أن أقف، بكمامة أو بغير كمامة، أمام لوحة تشكيلية, فى زمن كان ارتياد معارض الفن فيه أمراً عادياً: ولتكن تلك اللوحة لحشد من الناس تحت المطر، محتمين بمظلاتهم فى جو شتوى غائم، لكنّ دفء ازدحام الناس يجعل ذلك الجو الرمادىّ باعثاً على النشوة! نعم، لكم أوحشتنى المتاحف والمعارض ومقاهى الأرصفة. أوحشتنى نظرة العين للعين دون ارتياب وقلق مبعثه الخوف من العدوى. آه كم أشتاق إلى رشفة القهوة التركية، السادة من بن غامق محوّج، فى فنجان صغير من خزف متواضع الفخامة، على مكتبى بجريدة الأهرام، يحمله لى عم أشرف أو عم جمال. وحتى لو تأخر فى إحضاره بعض الشىء، أنا موافق. لن أعترض. ذلك أن المكتب والحجرة والنادل والناس جميعاً أوحشونى. وأنا موافق منذ الآن أن أرتشف القهوة مرتدياً كمامتى، أزحزحها قليلاً إلى ما فوق الشفتين عند كل رشفة, إن سمح الزمان وتبسّم، وعدت إلى حجرة مكتبى فى أمان الله. ولكن مهلاً.. فلنصبر حتى تمر العاصفة. وحتماً ستمر العاصفة.
لمزيد من مقالات بهاء جاهين رابط دائم: