لا أستطيع التنفس، قالها جورج فلويد، الأمريكى الأسود الذى زوّر شيئاً ما فقُبِض عليه فى الخامس والعشرين من مايو الماضي، قالها وركبة رجل إنفاذ القانون الأبيض تضغط بلا رحمة على عنقه، وظل يكررها حتى فقد الوعي. ثم بعد ساعات فقد القدرة على التنفس فقداً أبدياً ومات فى المستشفي، فى مدينة مينيا بوليس، كبرى مُدن ولاية مينيسوتا الأمريكية. ولا أستطيع التنفس، يقولها الكثيرون حول العالم، بعد انتشار الوباء، بل وأيضاً من قبله. قيلت وتقال، وستظل تقال بكل لغات العالم. لكنها باللغة العربية توجع أكثر، لأنها تتردد منذ سنوات طوال، فى أماكن شتّى من عالمنا العربي، وبمعان مختلفة، منها الحرفى ومنها المجازي، فى ليبيا وسوريا والعراق واليمن وفلسطين وغيرها من مواجع العرب. لا أستطيع التنفس، قيلت وتقال منذ قرون، هنا وهناك، فى عالمنا العربى وفى خارجه، ولكنها فى العقود الأخيرة صارت تتعالى بحرقة ومرارة أشد، لأن سادة العالم قرروا أننا العدو الملائم لهم، دعائياً وإعلامياً وانتخابياً، بعد سقوط عدوهم التقليدى القديم فى شرق أوروبا. لا أستطيع التنفس يقولها كل العالم الآن، بمعنى أكثر حرفية؛ لكنّ هذه الوحدة فى الألم، لم توقف ظلم الإنسان للإنسان، فظل الأسود فى عين بعض البيض أسود، وفى مرتبة تبلغ من التدنى أن تُفقده حقوقه الدستورية، والإنسانية، حتى حَقَّ التنفس!
لقد كان چورچ فلويد مـذنباً أمام القانون، لكن كان من حقه أن يتنفس، مجرد أن يتنفس. وهناك كثيرون لا يستطيعون ذلك، حرفياً أو مجازاً، مذنبين أو غير مذنبين. فمجرد متابعة أنباء العالم، وبتحديد أكثر إيلاماً: وطننا العربي؛ مجرد المتابعة اليومية للأخبار على الهواء مباشرة تمتص الكثير من أكسجين ذلك الهواء. وبعيداً عن محطات التلفزة وصفحات الجرائد ومواقع الإنترنت، نحن محاطون بأحباء تجعلنا أحوالهم نلهث لاقتناص نَفَسٍ الهواء النقيّ، المُصفّى من ذنوب العالم، وذنوبنا نحن شخصياً؛ ما صنعت أيدينا وأيدى الناس. فقد ظهر الفساد فى البر والبحر، وتلوث الهواء بأكثر من معني. والآن صار يسخر البعض من محاولات إنقاذ البيئة، ويتبرأ منها ومن لا جدواها. فليس نقص الأكسجين وحده ما يجعل المرء يشعر باختناق، بل نقص إنسانية الإنسان. لا نستطيع التنفس ونحن نرى خيام اللاجئين تنتشر فى الشام وفى العالم كله، لأنها لم تعد مقصورة على الفلسطينيين وحدهم. ولا يستطيع حتى هواء البحر المنعش أن ينعشنا،حين نشهد الآلاف يومياً، من العرب ومن الجنوبيين عموماً، يتكدسون فى قوارب غير مهيأة لحمل أطنان الأحلام اليائسة لفقراء الجنوب، و نراهم يكررون بجنون عبثى محاولة عبور البحر نحو الشمال السعيد، رغم أنهم يغرقون تقريباً كل مرة. لا يستطيع الإنسان التنفس بسهولة ويُسر، وهو يرى الذين وصلوا بمعجزة إلى الجنة الشمالية، يراهم وهم يطردون منها بغلظة، أو يقتلون على يد مهاويس موجودين فى الشمال أيضاً، ولا يقتصر عليهم الجنوب وحده. وإن حاولت أن أعد أسباب الاختناق لن أحصيها. ليس كورونا وحده. فالكوليرا والجوع والطائرات قتلت آلافاً وشرّدت ملايين. الأنانية وباء أقتل وأشرس وأكثر انتشاراً وأرسخ بقاءً ودواماً من كورونا، أو أى طاعون وموت أسود.
ورغم ذلك، فاللون الأسود هو أحد الألوان فقط، أو هو انعدام اللون،والطبيعة وأعمال الإنسان فيهما من الألوان الجميلة ما لا ينكره إلا جاحد. وعلينا نحن الجنوبيين أن نزيد من نصيبنا منها، ولا نيأس من ذلك، مستعينين، بعد الله، بالعلم، ، وبالتعاون بدلاً من التقاتل، لأن مصلحتنا فى الحقيقة واحدة، وتنازعنا يصب فقط فى مصلحة الآخرين الذين يريدون أن يحتكروا الخير كله. وأختم بالدعاء أن يرفع الله عنا الوباء، وباء كورونا.. ووباء الأنانية.
لمزيد من مقالات بهاء جاهين رابط دائم: