لم يكد رئيس الحكومة اللبنانية ينته من ماراثون التشكيل الصعب لحكومته أواخر يناير الماضى، حتى جاءت جائحة كورونا لتصب زيتا جديدا على نار الأزمة الاقتصادية المشتعلة منذ سنوات عديدة، وما إن هدأت الأزمة الصحية وما صاحبها من مناوشات سياسية، ومناوشات مالية أعنف مع حاكم المصرف المركزى رياض سلامة، حتى بدأ حسان دياب ترتيب أوراقه، وحسم سياسته الاقتصادية صوب صندوق النقد الدولى.
ولأن صندوق النقد الدولى لن يبدأ التفاوض إلا فى ظل خطة إصلاحية شفافة وقابلة للتحقق، فقد أعد رئيس الحكومة خطة إصلاح اقتصادية، قال عنها: «إن هذه اللحظة مفصلية فى تاريخ لبنان، حيث بدأنا الخطوة الأولى نحو ورشة حقيقية لإنقاذ لبنان من الهوة المالية العميقة التى يصعب الخروج منها من دون مساعدة فاعلة ومؤثرة». فيما قال الرئيس ميشال عون «إن اليوم هو يوم تاريخى للبنان، لأنه للمرة الأولى تقر خطة اقتصادية مالية، بعدما كاد عدم التخطيط وعدم استشراف المستقبل يوديان بالبلد إلى الخراب»
خطة التعافى من الأزمة المالية التى أعدتها الحكومة، وتجاوزت صفحاتها المائة أبرزت أهدافها الأساسية على صعيد الإصلاحات الهيكلية وتأمين الحماية الاجتماعية للمواطنين الأكثر فقرا مع تأكيد حاجة لبنان إلى دعم خارجى، على أن يأتى هذا الدعم بعد الالتزام بالإسراع فى تنفيذ إجراءات الإصلاح التى طال انتظارها من أجل استعادة الثقة. واقترحت الخطة العمل على تأمين مساعدات دولية قيمتها 10 مليارات دولار موزعة على مدى خمس سنوات حتى عام 2024، مع العمل على إعادة التوازن للمالية العامة والانتهاء من عملية إعادة هيكلة الدين بالإضافة إلى استرداد الأموال المنهوبة وتنفيذ الإصلاح الضريبى الذى يستهدف أصحاب الدخل المرتفع، مع تعزيز كفاءة الإنفاق وإدارة مالية عامة أفضل، وإصلاح الكهرباء والمؤسسات العامة وصولا إلى خصخصة عدد من هذه المؤسسات خلال السنوات العشر المقبلة.
وفيما لاقت خطة التعافى ترحيبا من يان كوبيتش المنسق الخاص للأمم المتحدة فى لبنان الذى وصفها بأنها «خطوة مهمة نحو الإصلاح ومعالجة الأزمة المصيرية الراهنة»، وكذلك من أجنيس فون دير مول المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، والتى قالت» «هذه قرارات مهمة لإيجاد حل للأزمة الجسيمة التى تواجهها البلاد»، فإنها لم تخل من اعتراض سياسى، قاده سعد الحريرى، حيث استقبل فى بيت الوسط رؤساء الحكومات السابقين نجيب ميقاتى وفؤاد السنيورة وتمام سلام، وتلا السنيورة بيان اللقاء، معتبراً أن «الحكومة الحالية تحوّلت إلى أداة لتصفية الحسابات السياسية والممارسات الانتقامية وجعلت من نفسها منصة لرمى الاتهامات ومتراسا تختبئ خلفه كيديات وأجندات طموحات رئاسية غير آبهة لاتفاق الطائف والدستور ومصلحة الدولة»
لكن الهجوم الأعنف على هذه الخطة كان من جمعية المصارف، حيث اعترضت وبشدة على هذه الخطة، وأنها لا يمكن أن توافق بأى حال من الأحوال على خطة لم تجر استشارتها بشأنها وستقوض الثقة بلبنان وتعوق الاستثمار وأى احتمالات للانتعاش، ووصفت الخطة بأنها غامضة وغير مدعمة بجدول زمنى دقيق للتنفيذ، وقالت إن الخطة لا تعالج الضغوط التضخمية بل قد تؤدى عمليا بدورها إلى تضخم مرتفع جدا.
غير أن رئيس الحكومة لم يلق بالا لهذا الهجوم، ومضى فى سبيل تنفيذ خطته، فما إن أعلن عن الخطة حتى بادر بالاتصال بكريستالينا جورجيفا مديرة صندوق النقد الدولى ومناقشة خطة الحكومة حيث وصفتها بـالـ «مثمرة».
رئيس الجمهورية من جهته لم يضيّع كثيرا من الوقت، وأرد أن يُعَبِّد الطريق لنجاح الخطة الاقتصادية وأن تأخذ طريقها الآمن نحو التنفيذ، فدعا الكتل النيابية إلى لقاء لفتح حوار وطنى حول الخطة، حضرته الكتل المؤيدة للحكومة، فيما غابت المعارضة إلا من سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية، فيما امتنع الحريرى وجنبلاط، حيث عبر عون فى هذا اللقاء عن أن اللجوء إلى صندوق النقد الدولى هو الممر الإلزامى للتعافى إن أحسنا التفاوض والتزمنا جميعنا المسار الإصلاحى الذى ينشده شعبنا أولا بأول من دون أى إملاء أو وصاية أو ولاية.
ويرى كثير من المراقبين أن لبنان لم يعد أمامه إلا خيارات محدودة، منها خيار اللجوء إلى صندوق النقد الدولى، وطلب دعمه ومساعدته، وعليه أن ينسى الماضى القريب، حين كانت بعض الدولة، تعتبر سفينة الإنقاذ من أزماته المالية، فهذا الطريق أصبح مسدودا، بعد فشل المدعومين من وقف تغلغل حزب الله فى كل مفاصل الدولة، وسيطرته على معظم المؤسسات السياسية والأمنية.
وبدا لافتا التراجع الواضح لحزب الله، بعدما رفض فكرة اللجوء إلى الصندوق كونه يخضع للهيمنة الأمريكية، وأنه قد يفرض شروطا سياسية وليس فقط إصلاحية، لكن حين همّت الحكومة بعرض الخطة لم يمانع، بل اعتبره نوعا من «التقدم» لإنقاذ لبنان من شبح العصيان المدنى والمجاعة.
فى اليوم التالى، لإقرار خطة التعافى المالية للبنان، الموافق الأول من مايو، وقع حسان دياب وغازى وزنى وزير المالية طلب مساعدة من صندوق النقد الدولى، وبدأت وزارة المالية فى عقد اجتماعات متتالية مع وفد الصندوق وصلت إلى نحو 10 اجتماعات حتى الآن.
ويأمل لبنان، فى ظل وجود برنامج صندوق النقد الدولى، فى أن يفرج المانحون الأجانب عن نحو 11 مليار دولار تعهدوا بها فى مؤتمر «سيدر» بباريس ربيع 2018، والذى جرى ربطه بالإصلاحات المتوقفة منذ فترة طويلة.
ولأن صندوق النقد الدولى ليس مؤسسة خيرية، ولا هو إحدى الدول الذى اعتمد عليه لبنان كلما واجهته أزمة اقتصادية، فإن شروطه ستكون حتما قاسية وشديدة على لبنان واللبنانيين، ولذا فإن أكثر ما يقلق اللبنانيين أن تكون هذه الشروط أو بعضها سببا فى إثارة وتأجيج الصراعات السياسية وبثّ الفتن والوصول إلى نتائج لا تُحمد عقباها على صعيد السلم الأهلى، وفشل لبنان فى مفاوضاته يعنى انكماشا اقتصاديا أكثر شدة وركودا متصاعدا، فضلا عن تعرض الاستقرار الاجتماعى للخطر، وزيادة كبيرة فى معدلات البطالة والفقر والهجرة وغياب الأمن.
رابط دائم: