رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

جذور العقل الأيديولوجى الحداثى النقلى

العقل الأيديولوجى النقلى الذى ساد مصاحبًا للشمولية والتسلطية السياسية فى عالمنا العربي، بدا آنذاك وكأنه جزء من التغيرات الحداثية السياسية، لاسيما ما بعد الاستقلال، وإقامة الدولة الوطنية. إلا أن إمعان النظر فى بعض خطاباته يشير إلى سطوة النزعة النقلية، والسلفية الأيديولجية، على نحو ما رأينا فى بعض الخطاب الليبرالى العربي، وهو استعادة لبعض الإعطاب فى تاريخ تطور بنى الأفكار منذ بداية النهضة العربية. يبدو أن الأفكار الكبرى التى تم استيرادها وابتسارها إلى العقل العربى منذ منتصف القرن الثانى عشر، وفى ظل النهضة العربية المغدورة فى نهاية القرن التاسع عشر، بعد استهلاك هذه النظريات والمفاهيم والمصطلحات الحداثية فى مهادها، وتجاوزها إلى آفاق فكرية فلسفية وسياسية أخري، حاول العقل العربى النقلي، أو التلفيقى السعى إلى صيغ مبتورة، لإعادة إنتاج، ما تم تجاوزه والقطيعة معه، من هنا ادمنا الانتظار، لاستهلاك. بعض من مخلفات العقل الغربي، كما نستهلك السلع والخدمات، والتقنيات كمستهلكين، دون رؤى نقدية، ونقدمزدوج، وظللنا محض أسواق استهلاكية للسلع والخدمات وبقايا الأفكار والاستثناءات الفكرية المحدودة. النزعة التلفيقية والتبسيطية المسيطرة منذ صدمة الحداثة مع مدافع نابليون، وبعض اليقظة البسيطة مع الشيخ حسن العطار، وتلميذه النابه رفاعة رافع الطهطاوي، أسهمت فى ابتسار الأفكار المستعارة من المركز الأوروبى الغربي، وتسطيح صيغ التلفيقية تحت ثنائيات ضدية بسيطة، تحت سطوة العقل النقلى المسيطر واللا تاريخي، الذى يعيد إنتاج إرث تاريخى غير مدروس ثم إضفاء القداسة عليه.

تحولت الثنائيات الضدية، إلى لعبة يتم إعادة إنتاجها فى صيغ لفظية، واصطلاحية لا تغادر مواقعها ومضامينها ودلالاتها، وتم إضفاء بعض من التنميط على هذه الثنائيات المغلوطة، على نحو أدى إلى فرض القيود على العقل النقدي، وتحول العقل النقلى السائد إلى شبه آلة، وإلى صنم من الأصنام التى يدور حولها الفكر والعقل لأداء طقوس التبجيل والطاعة والإذعان. من هنا أثرت هذه الأفكار التبسيطية على الجدالات الكبرى منذ نهاية القرن التاسع عشر، وفى ظل المرحلة شبه الليبرالية، وطيلة التسلطية السياسية بعدها، التى استخدمت واستهلكت الفكر الدينى النقلى كأداة للسيطرة والتعبئة الشرعية، وانعكس ذلك على السياسات التعليمية والتربوية، التى لم تستطع أن تسهم بفاعلية فى إنتاج عقل نقدى خلاق ، وعلمى لطلاب المدارس والجامعات، فى العلوم الاجتماعية، والطبيعية، والأخيرة تركت كلياتها لتمدد الجماعات الإسلامية السياسية منذ عقد السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول والثانى من القرن الحادى والعشرين.

يبدو أن الفكر الإصلاحى منذ مطلع النهضة العربية، اعتمد على نقل الأفكار التى تراجعت فى المرجع والمركز الأوروبي، مع تطور الثورة الصناعية الأولى والثانية، ومعها بعض المفاهيم والأفكار التى ارتبطت بالمدن الحديثة وتخطيطها، وميلاد الفرد والفردانية، وتطور النظم الديمقراطية والتمثيلية، والنظم القانونية والقضائية والحريات العامة والخاصة. من هنا جاءت الأفكار المستعارة، ومحاولة تمثل بعض مصادرها التاريخية الإغريقية والرومانية، بدت مجافية لأنماط الإنتاج وشروحها فى مجتمعات زراعية شبه إقطاعية وشبه رأسمالية، وخاضعة للاستعمار البريطاني، وتوظيف المؤسسة الدينية العقل الدينية العقل النقلي، وبعض ميراثه اللاهوتى والفقهي، كأداة لمواجهة الكولونيالية فى بعض المراحل، وتجاوز ذلك إلى رفض الأفكار الوافدة والتشكيك فيها واعتبارها جزءًا من ثقافة الغزو والاحتلال. من هنا لجأ العقل الحداثى المبتسر إلى اجتزاء الأفكار المستعارة فلسفيًا، وسوسيولوجيا وسياسيا، وتعرض بعضهم لسهام التكفير لردعهم وقمعهم، دونما مناقشة وتحليل ونقد لهذه الأفكار، وثمة استثناءات لكنها قليلة. بعض كبار المثقفين والمتفلسفين، كان ينقل بعض الأفكار وبعض النصوص دون المرجع الذى نقل عنه، وكان ذلك شائعا لدى بعضهم، وذلك لأن الدافع لديهم أن الثقافة المصرية العربية، فى حاجة إلى رفدها ببعض من ينابيع الفكر الغربي، وذلك لتنشيط عمليات الحراك الفكرى والتطور الاجتماعى والسعى إلى تجاوز تأخرنا التاريخي. إن الصدام بين العقل النقلى التقليدى الموروث والعقل النقلى شبه الحداثى أدى إلى إشاعة فكر الثنائيات الضدية حول القديم والمحدث والأصالة والمعاصرة دونما تفكيك تاريخى ونقدى لهذه الثنائيات والمقولات المرتبطة بهم، وتحولت كل مفردة فى هذه الثنائيات إلى أقنوم أيديولوجى يتمترس خلفه دعاته دون فحص وتفكيك وتحليل ونقد، وهو أمر استمر يولد ثنائيات تدور فى دوائر مغلقة، وبات غالب الخطابات النقدية، أقرب إلى سجالات أيديولوجية مفارقة للواقع الموضوعى المصرى والعربى والعالمي، وتتسم باللغة السائلة، والشعارات العامة التى لا تنتج شيئًا، وتعيد إنتاج ذاتها لغة وغموضًا. لا شك أن الخطابات النقدية بدأت فى الظهور خارج المنطقة قبل حرب 5 يونيو 1967 مع كتاب عبدالله العروى الأيديولوجيا العربية المعاصرة، ثم ترجم بعدها، وفى نهاية التسعينيات والثمانينيات والتسعينيات، ظهرت بعض الكتابات النقدية الجديدة، من أدونيس ومحمد عابد الجابري، وجورج طرابيشي، ومدرسة عبدالمجيد الشرفي، ومحمد الطالبي، وهشام جعيط، وفؤاد زكريا، وغيرهم فى المنطقة. لا شك أن هذه المقاربات الجديدة مهمة أيا كانت الانتقادات التى وجهت لها، لكن السياقات الاجتماعية والسياسية، وقمع العقل الحر أدى إلى هيمنة العقل الدينى التقليدي، خاصة فى ظل الحقبة السعودية والنفطية، وتأثيرها على الثقافات العربية بل وعلى بعض المثقفين العرب، على نحو أدى إلى شيوع المواءمة، والإضمار، وعزل العقل النقدى الحر، وهيمنة العقل السياسى التسلطى والشمولي، ومعه تم إنتاج العقل المعتقلThe Captive Mind ، إذا شئنا استعارة تشيسواف ميووش الشاعر البولندى (نوبل للآداب 1980).


لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح

رابط دائم: