بأَمرِ العيد تغْدو الفرحةُ فرض عين، وفنونُ صناعتها غاية كل بارٍ بِعِيدْ، وألوانُ بهجتها زاد السائرين إلى حياة، هكذا يدوى أمرُ العيدِ فى القلوب، يسرى مع تكبيراته أو أجراسِهْ أو ترانيمه، لا يُفَرِقُ بينَ مريديه اختلافُ العقائد، ولا تخْتَلِفْ حفاوة استقباله باختلافِ توجهاتِ الساعين إليه، كُلُ بنى آدم سواء أمام حضرةْ نفحاتِ الخالق فى أيامه، كُلُهمْ لهمْ قُلوبٌ تسأم رتابة الأحداث، وعُقولُ تُنهَك بفعلِ تحديات الحياة، وأبدانٌ تتوق لراحة بين محطاتِ مكابدة العيش والبقاء.
يأمرُ العيد حيَنَ يَهِلُ بالفرحة، فتتأهبُ الأرواح بحسبِ خفِةِ ما تحمِلُ مِنْ أعباء، لذا يكونُ عيد أيام الطفولةِ الأكثر تحليقًا فى أفق الفرحة، وتبقى قطراتْ نداها عالقَةً بالروح مهما اشتعل رأسها شيبًا، قطراتٌ تُدَغْدغُ بأصابع الحنينِ أيامًا جافةْ بفِعل عوامل المسؤولية، كُلما ازداد العُمر وتَعَقَدَ العالم فى ميلاده الجديد، فتَحِنُ الذائقة إلى طبقِ «المهلبية» الذى كان يُصنَّعُ خصيصًا للعيد، وتَحِنُ الجَدَّةُ لضفائر الصبية التى كانتها وهى تُجْدَّلُ بين أصابع أمها فى وقفةْ العيد، وتَحِنُ الحوارى إلى عتباتِ دورٍ تَحمَمتْ وتبخرت تأهبًا لعيد، وتَحِنُ الأحياءُ إلى قاطنينَ أحياء القلوب يفرشونَ بسماتهم بساطًا يسع كل باحثٍ عن عيد، وتَحِنُ الأوطان إلى مواطنٍ يؤمِنُ بأن كُلَ صبحِ يوقظه على وطنٍ هو عيد. فى أمرِ العيد لخلقِ الله بالفرحة، تدريبٌ لبنى البشر على أنْ يستعينوا بها فى مواجهة قسوةِ الحياة، تَختَلِفُ مُعتقداتهم ودور عبادتِهم وطقوسها، ويتشارك الجميع فى أيامٍ تفوح بنفحاتِ الخالق، تكليفَهُ فيها الفرْحَة، وفَرْضهُ المُقَدسْ هو التماسُ أسبابها، وطقسَهُ ما تقرُ به الأعينُ وتطيب له القلوب وتستمع معه النفوس، وقُدس أقداسِه مفتوحُ على كُلِ البيوت والحدائق والمتنزهات، وحينها تتجاوز الفرحة مُجَردَ إحساس إنسانى إلى طقس عبادي، يُعمِرُ الدُنيا بالبسماتْ، ويبنى الحياة بمُؤَنسن التواصل، ويُطَوِر الإعمار بالإبداع.
يُحيلنا جديد التجربةِ إلى عيدٍ فى أيام الجائحة، حيثُ يُصبح على إنسانِ زماننا أنْ يُلبى أمر العيد بالفرحة، وألا يُفَرِّطَ فى الإجراءات الاحترازية اللازمة لمواجهة «كورونا»، وبفعِل الإعلام المُوَجَه والجديد -وسائل التواصل الاجتماعى الإلكترونية-، يتحَوَّل السعى لإحداث هذا التوازن من فِعِلٍ إيجابيٍ البناء، إلى أداءٍ سلبيٍ الأثر، عبر منصاتٍ مفتوحة النوافذ للبكائيات على العيد الذى فات البشرية بِفعل الجائحة، بدايةً مِنْ مرثياتِ الورع الكاذب الخاصةِ بالمساجدِ التى أغلقت، وساحاتِ الصلوات التى تعطلت، ومرورًا بسهراتِ ليلة العيد التى لن تتم، ورحلاتِ أيامِه التى ألغاها ترصد الفيروس، وانتهاءً بطقوس الزياراتِ الأسرية والعائلية التى شُطبتَ من جدول العيد. لَكِن تدبرًا فى تجربة العيد فى زمن كورونا، يُحيلنا إلى سؤال أساسى عن الغاية مِنْ الأعياد فى حياة بنى الإنسان، تلكَ التى تفُرض عليهم تدريب أنفسهم على أنْ يفرحوا ويُجاوِزوا بفرحتهم حدود ذواتهم إلى كلِ من حولَهم من بنى الإنسان سواءً كانوا على علاقة به مباشرة أو لم يكونوا، إنها إيجابية الفرحة العامة التى تفرضها علينا الأعياد وتُكلفنا أن نحياها طقسًا جماعيًا يُشاركنا فيه كلَ آخر، وإنهُ التعايشْ مع النموذج الذى يمكن البناء عليه فى بقية أيام الله عبر العام، ليصنَعَ الإنسانُ أعياده الخاصة والعامة إحياءً للفرحة فى نفسه ومن حوله ليكون للحياة مذاقها القادر على أن يذهب بمرار كدها المستمر.
أمَرَنَا عيد الفطر المبارك أن نفرح، وفرضت علينا جائحة أيامه أن نحترز فى أداءات فرحتنا، ومنحتنا الاجراءات الاحترازية مساحات تدبر فى أعيادنا التى دربتنا عمرًا على أن نصنع فرحتنا، فلما خرج قطار أيامنا عن قضبان العادة إلى الاستثناء ارتبكَ أداؤنا، وتاهت خطواتِ بحثنا عن فرحة العيد فى صحراءٍ منِ البكاء على أيام البلاء، رغمَ أنَّ نِعَمة الحياة تستحق حمدها بالذود عنها أمام الأخطار، وبدعمها فى مواجهة قسوة الأيام ولو حتى بتصنع الابتسام!.
سيمر عيد أيام الجائحة، كما مرت أعيادٌ من قبل، وسيبقى من أثرهِ فَضْلُ أنَّهُ ذكرنا بأننا قادرون على صناعة فرحتنا لنعالج بها جروحًا حتمية الحدوث تخلفها مصارعةُ الحياة، وسيبقى مِنْ عبَقِه ما يُحيلنا إلى تنسم نفحاتِ الله فى أيامنا على مدار العام، عبر أعيادٍ من نوعٍ مختلفِ يصنعها الإنسان ولا تصنعه، يراها غايةً مرحلية فى خطو سعيه، يُنجِز عملًا فيه أو يُنهى عِلمًا أو يبنى أملًا أو يُشيد إنجازًا أو حتى يحتفِلُ بطرح زهرة زرعها على أعتاب نافذته، إنها أعياد الإنسان حين يُقرر أن يكون كَل منجزٍ لإعمار حياته هو أذانُ عيد.
لمزيد من مقالات ◀ عبد الجليل الشرنوبي رابط دائم: