رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عبد الباسط عبدالصمد
كروان القـــرآن!!

حوار: أسامة الرحيمى

العارفون بأحكام قراءة القرآن الكريم، وجماليات تلاوته، يتفقون على تفرد مدرسة القراءة المصرية، واعتبارها من المكونات الرئيسية لقدرات مصر الهائلة.


وأصوات الكبار من شيوخ القراءة الراحلين، ما زالت تُشعر كل من يستمع إليها بقرب السماء من الأرض، وتملأ القلوب بالخشوع، والأذهان بجلال المعانى!

من هؤلاء ألمع الأساتذة الشيخ «عبدالباسط عبدالصمد»، الذى يُرقّق صوته المشاعر، ويؤجج الأشواق لرحمة الله، كواحدة من أسمى الغايات.

والبادى أن مشيئة الله قضت باعتلاء مصر قمة قراءة القرآن الكريم، خلال القرنين الماضيين، وتصدى قراؤها لمسئولية تلاوة القرآن فى محافل الدنيا كافة، فبرز منها أشهر القرّاء، فأبهروا الناس بجمال أصوتهم، وحُسن أدائهم، وتمثّلهم إيحاءات الذكر الحكيم. فظهرت تأثيرات هذه المدرسة على قُرّاء الدنيا، فقلدوهم فى التلاوة والأداء، والتطريب، حتى اتفق أهل العلم على المقولة الشهيرة: «نزل القرآن بمكة، وكُتب فى إستانبول، وقُرِئ فى مصر»، وسرت العبارة مسرى الأمثال والحكم.



نشأة «كروان القرآن»

وكل المحاولات الدءوبة لفرض «لهجات القبائل» المُجرّدة، ستذهب بددا، أمام تجليات هذه القراءات الراسخة، ولن تقوم لها قائمة، ما بقى صوت «محمد رفعت» يصدح، حتى بخروشات التسجيلات القديمة، ومع لعلعة أصوات الشيوخ «مصطفى إسماعيل» و«الشعشاعى»، و«شعيشع»، و«الحصرى» و«عبدالباسط» و«المنشاوى»، و«البنا»، و»الدمنهورى»، وغيرهم من كواكب ترتيل القرآن. والشيخ «عبدالباسط»، الذى سيبقى بنظرى «كروان القرآن»، ترك للإذاعة، والسمِّيعة، ثروة من تسجيلات القرآن كاملة بصوته، منها المصحف المرتل، والمجوّد، ومثلهما لإذاعات عربية وإسلامية!

وصوت الشيخ «عبدالباسط عبدالصمد» العذب لم يأت من فراغ، ولا صنعت نجاحه الصدفة، فقد ولد عام 1927 فى قرية «المراعزة» بمركز «أرمنت» فى محافظة قنا، لأسرة تحبُّ القرآن، فوالده الموظف البسيط، هو وجدِّه الفلاح كانا من حفظة القرآن، وتمكّنَا من أحكام تجويده، ودفعا بأولادهما لحفظه على يد الشيخ «محمد الأمير»، شيخ كُتَّاب قرية «أصفون المطاعنة» المجاورة لقريتهم، فحفظه أصغرهم «عبدالباسط» وهو دون العاشرة، ثم تعلم أحكام التجويد، وأصول القراءات السبع على يد الشيخ «محمد سليم حمادة»، الذى تنبه لنبوغه المبكر، وشجعه على القراءة فى المحافل، وذاع صيته فى القرى المجاورة لبلدته، وبات مطلوبا لإحياء المناسبات، وبدأ يدر دخلًا على أسرته، لكن الإرهاق طاله، لأنه كان يذهب مشيا على الأقدام لصعوبة المواصلات وقتذاك، لكنه حاز صيتا واسعا فى الصعيد وأصبح اسمه معروفا.

ودرجت شهرته من قراءة المآتم، وليالى شهر رمضان فى منادر العلائلات، إلى التلاوة فى سرادقات القبائل الكبرى، وكانت القبائل تتنافس على استقدام كبار القُرّاء لإحياء الشهر. وقرأ أيضا فى مولد الشيخ «عبدالرحيم القنائى»، فذاع صيت الشيخ الصاعد «عبدالباسط» وسط أصوات راسخة مثل الشيخ «صدّيق المنشاوى» والد القارئين المعروفين «محمود ومحمد صديق المنشاوى»، وكان معروفا وقتها بـ «قارئ الصعيد»، وأيضا الشيخ «عبدالراضى»، والشيخ «عوضى القوصى»، والتقط «عبدالباسط» من أسرار تلاوتهم، لكنه ظل مشغوفا طوال الوقت بأصوات نجوم القاهرة، «محمد رفعت» و«مصطفى إسماعيل»، ولأجلهما اعتاد المشى خمسة كيلومترات مرتين من كل أسبوع ليستمع إليهما من راديو فى سراى «عبود باشا» بأرمنت، وكانت تلك الأجهزة نادرة آنذاك.

الانطلاق من القاهرة

وفى عام 1950 قادت الشيخ الشاب أقداره إلى القاهرة، برفقة والده، ليزورا آل البيت، وفى مسجد السيدة زينب، فى اليوم قبل الأخير للمولد، وكان نخبة من كبار القراء يعمرونه بتلاواتهم المبهرة، فطلب والد الشيخ الشاب، من صديقه إمام المسجد الشيخ «على سبيع»، أن يقدم ابنه للقراءة، وكاد «عبدالباسط» أن يعتذر عن عدم القراءة، لرهبته فى حضرة الكبار، فشجّعه إمام المسجد، وقال له إنه سمع صوته فى البلد، وقدمه فى لحظة استراحة كبار القراء، وتلا «عبدالباسط» ما تيسر من سورة الأحزاب: «إن الله وملائكته يصلون على النبى

يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما» فاستولى على الأسماع بعذوبة صوته، واستحوذ على اهتمام الشيوخ الكبار، بحسن اختياره آية الاستهلال، وأقبلوا عليه، وخشعت لتلاوته القلوب، واحتبسوا أنفاسهم، غير مصدقين إشراقة صوت بهذا الجمال، وبغريزته استشعر أهمية الحالة، فاستحضر بحماس خبرته الغضّة، وأطاعته موهبته، وامتدت القراءة إلى ساعة ونصف ساعة، وأقبل عليه الناس، يُحيُّونه، ويُقبِّلُون يده، وقال الشيخ «عبدالفتاح الشعشاعى» أحد الكبار الذين حضروا المشهد، «إن هذا القارئ ذو حظ عظيم»، وفرح والد «عبدالباسط» كثيرا، ورفع يده شكرا لله، واعتبر «السيدة زينب» «وشّ السعد عليه»، فكانت لحظة تليق بميلاد ابنه، وانطلاقة لشهرة طبّقَت الآفاق.

وفى هذا اليوم قرر الاستقرار فى القاهرة، واستأجر شقة صغيرة فى السيدة زينب، انتقل بعدها إلى الحلمية الجديدة، ثم سكن منيل الروضة، ثم جاردن سيتى، وشيَّد فيلا فى حى العجوزة.

ويرى بعض الناس أن تلك اللحظة كانت سببا لاعتماده فى الإذاعة المصرية، عام 1951.

ويحكى أن الشيخ «الضبّاع» طلب منه التقدم للإذاعة، لكن «عبدالباسط» اعتذر لارتباطه بإحياء حفلات فى الصعيد، فبادر الشيخ الضباع للحصول على تسجيل «عبدالباسط»، وقدمه إلى لجنة الإذاعة، فتم اعتماده بها قارئا للقرآن عام 1952، وكان أول ما أُذيع له «سورة الشمس».

لكن الإذاعى الكبير «فهمى عمر» لديه رواية موازية، أميل لتصديقها أكثر، وهى أنه فى أحد أيام 1951، كان «مصطفى النحاس» باشا، دولة رئيس مجلس الوزراء، يؤدى صلاة العصر بمسجد «السيدة زينب»، وكان الشيخ «عبدالباسط» بصدفة خالصة يقرأ آى الذكر الحكيم، قبل آذان العصر، فأدهش صوته «النحاس باشا»، وكان بجواره أحد سكرتاريته، وكان عضوا بلجنة الاستماع فى الإذاعة المصرية فسأله النحاس: «هل هذا القارئ فى الإذاعة؟»، فرد السكرتير: «لا يا رفعة الباشا، فأنا أستمع إليه للمرة الأولى». فأصدر النحاس قراره باعتماد «عبدالباسط»، فى الإذاعة!.

وقد راجعت تاريخ مجلس الوزراء، لأتأكد أن النحاس باشا، كان رئيسا للحكومة فى تلك الفترة من 1950 إلى يناير 1952.

عبدالباسط والموسيقى

ومن يتأمل صوت هذا الكروان، سيجد أن «القرار» لم يكن هدفه فى أثناء القراءة، ولا مجاله لاستعراض امكانات صوته، بل كان هدفه الدائم هو «الجواب». و«القرار» كان محض محطة يستريح فيها صوته، بالترخيم مرة، والوقفات مرات، والرِكُوز، والإمالات، قبل التأهب لانطلاقته الكبرى نحو مرتقى «الجواب» الشاهق، حيث تتبدى زخارف صوته جليَّة، وتتناثر جمالياته كالوميض المنشطر.

فهل كان «ابن القيّم» يصف صوت الشيخ «عبدالباسط» فى كتابه «زاد المعاد» وهو يتحدث عن قراءة الصحابة للقرآن: «كانوا يقرأون بالتحزين والتطريب، ويقرأونه بشجيً تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة».

وكأن موهبة الشيخ احتذت تحليقات الصحابة، فى تحزينهم، وشجنهم، وتطريبهم، وأشواقهم. ليحققوا، جميعهم، ما قاله الرسول الكريم، فى أحاديثه النبوية، ففى الصحيحين جاء، عن «أبى هريرة» أن الرسول قال: «ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن». وأورد «النسائى» و«أبو داود» عن «البراء بن عازب» قوله صلى الله عليه وسلم: «زيّنوا القرآن بأصواتكم».

وفى حديث ابن ماجه: «اقرأوا هذا القرآن بحَزَن فإنه نزل بالحَزَن». وقال النبى عن «سالم» مولى «حذيفة» وكان يجيد قراءة القرآن: «الحمد لله الذى جعل فى أمتى مثل هذا».

وقال حذيفة: «إذا قرأتم القرآن؛ فاقرأوه بحَزَن»، وروى «حذيفة بن اليمان» أن النبى قال: «اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها».

ويُروى أن الرسول مرَّ على «أبى موسى الأشعرى»، وهو يقرأ القرآن فقال له: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود»، فقال أبو موسى: «لو أعلم أنك تستمع لحبّرتُه لك تحبيرًا».

ووصف الرسول «أُبيّ بن كعب» بأنه: «أقرأ أُمّته للقرآن».

ويُروى عن «عبدالله بن مُغَفَّل» قوله: «رأيت النبى على ناقة له، يقرأ سورة الفتح، أو من سورة الفتح، فرجّع فيها».

وقال «الحافظ بن حجر» عن التغنّي: «ومن جملة تحسينه أن يُراعى فيه قوانين النغم، فإنّ حَسَن الصوت يزداد حُسْنًا بذلك».

والتغنّى لغة، تحسين الصوت، بالمدّ والإطالة والإمالة للتطريب. واللحن هو تفنن القارئ بأصوات كالتغريد والترجيع، بترديد الصوت فى الحَلق لتلوينه، وقراءته بطرائق العرب للإمتاع، بإطالة وتغيير مُدّة الحرف، فيختلف منطوق الكلمة عن شكلها على ألسنة الناس.

وهذه الأحاديث، والأحداث، والتفسير اللغوى، تنطبق بكل معانيها على صوت الشيخ «عبدالباسط»، ففيه حدث الاندماج بين جلال القرآن، وجمال الموسيقى، كما تحقق هذا للكبار. كما أن «عبدالباسط» كان يجيد العزف على العود، وصوته يتمتع بـ «الجواب المفتوح» الذى يزداد جمالا كلما ارتفع وحلَّق بعيدا، كونه مشحونا بحزن فطرى كحلية جمالية، وليس لمصاب اجتماعى ألم به، مع قدرته المدهشة على تطريب وقور يحفظ للقرآن جلاله، وتحكم مُطلق فى الرفع، والإخفاض، والميول، فيما لم يتحقق إلَّا لندرة من القراء، وفطاحل الغناء. ما يعنى تحكم صاحب الصوت فى مجمل نغماته، ومن يشاهد الشيخ الفذ أثناء قراءته سيلاحظ أيضا، استخدامه كفّيه فى مُراَوَحةٍ عجيبة بن أذنيه وفمه، ليسمع دقائق صوته بدقة، ليحكم درجات الرفع والخفض، والتلوين كما يريد بالتمام، فلم تكن حركة عشوائية، بل تشبه دفة المركب التى تحدد اتجاهه، والقلع الذى يتحكم فى سرعته، والتشابه بين هذا وذاك كبير، ومذهل!!

وهذا القارئ، بموهبته الفطرية الهائلة، وخبرته بالقراءات، استطاع الجمع فى تسجيلاته، وببساطة تشبه العفوية، بين أصول القراءات، والمقامات الموسيقية من دون أن يلحظ ذلك غير العارفين، وفى حوار له موجود على «يوتيوب»، تتضح معرفته الوثيقة بالقراءات السبع جيدا، حيث عَدَّدها للمذيع بأسماء مؤسسيها، ومن نقلوها عنهم، تماما كشيخيّه اللذين أحبهما منذ صباه، الشيخ «محمد رفعت» الذى أجاد استخدام المقامات فى قراءته القرآن، والشيخ «مصطفى إسماعيل» بغناه وتنوعه اللافت فى المقامات والقراءات.

القرآن كله صواب

وقد ورد فى الستة صحاحات أن «عمر بن الخطاب» سمع «هشام بن حكيم» يقرأ «سورة الفرقان» على غير ما تعلّم من النبى، فأخذ بردائه وانطلق به إلى الرسول، وقرأ كل منهما عليه، فقال الرسول لكل منهما: «هكذا نزلت»!!

وفى الترمذى والنسائى رواية شبيهة عن رجل قرأ عند «عُمر» فغيَّر عليه، فاختصما عند النبى، فقال الرسول «إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابًا أو عذابًا رحمة».

وتؤكد الروايات المتعددة أن النبى الكريم استحسن تنوع قراءة القرآن، حتى أنه قَبِل كل قراءة ما لم تُغيّر المعنى، وعلى تكرار اختلاف الصحابة واحتكامهم إليه، لم يقض بخطأ أيهم، ولم يردّ قراءة قارئ، وقال فى أكثر من رواية «إنه سأل الله التخفيف حينما أنزل عليه القرآن، فخفّف حتى وصل لسبعة أحرف»، والمعنى نفسه فى رواية «على بن أبى طالب» كرم الله وجهه: «إن الله أنزل القرآن على سبعة أقسام كل منها شافٍ كافٍ».

وقال الدكتور «طه حسين» فى كتابه «الفتنة الكبرى»: «تظاهرت الروايات أيضًا بأن المسلمين اختلفوا فى قراءة القرآن أيام النبى نفسه، ولم يكن اختلافهم فى اللهجات، وإنما كان اختلافهم فى الألفاظ دون أن تختلف معانى هذه الألفاظ. وقد اختصم المختلفون إلى النبى نفسه فأجاز قراءتهم جميعًا، لأنها لم تختلف فى معناها، وإنما كانت تختلف فى ألفاظها».

وعلم المقامات قديم، سابق على نزول القرآن، وهو تحديد للقواعد الموسيقية الشائعة فى الغناء وقراءة القرآن، كما فعل «أبو الأسود الدؤلى» فى قواعد النحو، ومنجز «الخليل ابن أحمد» فى الإيقاعات الشعرية!!

كما يرى الكاتب اللامع الراحل «كمال النجمى» فى مقالة عن «عظماء المقرئين ومستقبل التغنى بالقرآن»، (مجلة الهلال ديسمبر 1970) أن «التغنى نشأ فى مكة والمدينة فى ظل القرآن، ولكن الحدود الصوتية الفنية التى كان يتحرك فيها المتغنون جعلت التغنى أقرب إلى المصحف المُرتل الذى نسمعه الآن، فلم يكن متاحًا للمتغنى فى الصدر الأول إلا حيّزا معلوما شديد البساطة تتحرك فيه أوتار حناجر القراء. وكان الغناء العربى نفسه غير موجود بكيانه الضخم الذى لم يتكامل إلا بعد منتصف القرن الثانى. فلم يكن معقولا والأمر كذلك أن يتغنى المتغنون بالقرآن فى الصدر الأول إلا بما أُتيح لهم من بسائط العلوم الموسيقية، فى أبعد صورها عن التعقيد والتركيب والتكثيف، فكان مدّ الصوت وترقيقه ورفع طبقته بلا دُربة صوتية ولا معرفة موسيقية». ويكمل النجمي: «فلمّا اتّسعت علوم الغناء والموسيقى اتسع القُرّاء فى التغنى. وبدلاً من الأصوات الفطرية غير المُدرّبة ظهرت أصوات مدرّبة مصقولة تتغنى بإحكام ومعرفة بمواقع النغم».

لذا لم يكن غريبا أن يظهر التطريب والشجن والتَّحْزِين فى قراءات القرآن، وقواعد تلاوته، وفى المقامات الموسيقية أيضا، وربما ساعد على هذا فى القرنين 19، و20، انتقال عدد كبير من الشيوخ الأزهريين من قراءة القرآن والإنشاد الدينى إلى الغناء الصريح، فحدث تداخل كبير، بين القراءات والمقامات.

أباء الموسيقى فى رحاب القرآن

ومعروف أن آباء الموسيقى العربية، مثل الفارابى، وابن سينا، والكِندى، والأرموى، وإسحاق الموصلى، وزرياب، وكثرة غيرهم، شبُّوا فى رحاب القرآن.

ومثلهم فى عصرنا الحديث، مثل محمد عبدالرحيم المسلوب، وسلامة حجازى، والمنيلاوى، والحريرى، ومحمد عبدالوهاب، والسنباطى، وزكريا أحمد، وسيد مكاوى وغيرهم درسوا القرآن فى بداياتهم، أو حفظوه فى الكتاتيب، ما جعلهم يقدرون بسهولة على تضمين القراءات فى المقامات، والعكس، فى العلاقة الوشائجية القديمة بين الغناء، والتلاوة، ما يجعل لقراءة القرآن أصولا إيقاعية، وهو بتقديرى يتبدى بوضوح فائق فى صوت الشيخ «عبدالباسط» بلا قصد منه، فحسّه الفطرى ينطوى على فيوض جمال، تمنح صوته عذوبة أخَّاذة يستشعرها الناس فور سماعه، فيطربون لها بانتشاء، وفى العمق تكمن درايته بفن المقامات، وقد استفاد يقينا بظاهر الطَرَب، وخفيّ العُرَب، فغنم فوائد الغناء، وذوَّبتها موهبته بجُذور القراءات.

وربما كان هذا تحديدا، ما حدا بأحد مستمعيه أن يمازحه، فى تسجيل فى الاسكندرية عام (1980)، وكان صوت إعجاب المستمعين بقراءته صاخبا، وهو يقرأ آيات من سورة «الحاقة»: «.. فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ..»، فصاح المستمع من فرط انتشائه، بصوت عالٍ: « إيه دا يا عمنا..انت مخلوق فين (فضحك الحضور بصوت مسموع).. الله يكرمك يا مولانا.. وحياة الرسول أخطفك.. أيوا كده اضحك يا شيخ!!».

وللقراءات السبع التى ذكرها الشيخ «عبدالباسط» فى إجابته على المذيع، جذور معروفة فى التاريخ الإسلامى. فهناك سبعة قُرّاء من الصحابة الكرام اشتهروا بإقراء «القرآن الكريم»، هم: «عثمان بن عفان»، و«على بن أبى طالب»، و«أُبيّ بن كعب»، و«زيد بن ثابت»، و«عبدالله بن مسعود»، و«أبو الدرداء»، و«أبو موسى الأشعرى» رضى الله عنهم.

وعلم القراءات هو طريقة تلاوة القرآن الكريم وإخراج حروفه، وكتابة الآيات، وما اتفق واختلف عليه ناقلو آيات القرآن، وإسناد كل قراءة إلى ناقلها، وما يعتبر متواترا صحيحا، أو آحادا صحيحا، وقد اختلف الصحابة فى أخذهم عن النبيّ صلى الله عيه وسلم فى قراءات القرآن الكريم، حيث اعتمد الصحابة على التلّقى عن الرسول، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسّر منه». (البخارى جـ 4 ص1909 رقم 2287)، و(مسلم جـ 1 ص560 رقم 818). والمقصود بالإقراء هو تلاوة القرآن على الناس، وقام بعض التابعين بتقسيم أنفسهم فى الأمصار لإقراء الناس، ومن أشهرهم فى مكّة المكرّمة: «عكرمة»، و«ابن أبى مليكة». ومن أشهرهم فى المدينة: «سعيد بن المسيّب»، و«عروة»، و«سليمان بن يسار»، وفى البصرة: «أبو عالية»، و«ابن سيرين»، و«قتادة»، وغيرهم كثير من التّابعين.

أشهر 7قراء

ومن تابعى التابعين اشتهر سبعة قُرّاء فى المدينة، ومكة، والكوفة، والشام، وهم: «أبو عمران عبدالله بن عامر اليحصبى»، المتوفى سنة 118هـ، وأخذ القراءة عن «المغيرة المخزومى»، وعن «أبى الدرداء»، واشتهر برواية قراءته كلٌّ من «هشام» و«ابن زكوان»، وهما من أبرز قرّاء الشام.

و«عبدالله بن كثير الدارى» المتوفى سنة 120هـ، وكان شيخ مكة وإمامها فى القراءة، ولقى بعض الصحابة، مثل «أبو أيوب الأنصارى»، و«أنس بن مالك»، واشتهر بالرواية عنه «البزى» و«قنبل»، وهما من أبرز قرّاء مكة.

و«أبو بكر عاصم بن أبى النجود الأسدى»، المتوفيَ بالكوفة سنة 127هـ، وكان شيخ قرّائها، وروى عنه قراءته «شُعبة» و«حفص».

و«نافع بن عبدالرحمن المدنى»، المتوفى سنة 167هـ، وأخذ قراءته عن سبعين من التابعين ممّن أخذوا قراءتهم عن «عبدالله بن عباس»، و و»أبى هريرة» عن «أبى بن كعب»، وكان نافع شيخ القرّاء بالمدينة، وممّن رووا عنه «قالون» و«ورش».

و«أبو الحسن على بن حمزة الكسائى»، المتوفى سنة 189هـ، واشتُهر بسعة علمه للنحو، وهو فارسى، وكان شيخ قرّاء الكوفة، وروى عنه «أبى الحارث» و«الدُورى».

و«أبو عمرو زيان بن العلاء المازنى»، المتوفى سنة 154هـ، ولُقّب بسيّد قُرّاء البصرة، وكان أعلم الناس بالقرآن والعربية، وروى عنه «الدُورى» و«السوسى».

و«أبو عمارة حمزة بن حبيب الزيات الكوفى»، المتوفى سنة 156 هـ، وهو من تابعى التابعين، وروى عنه «خلف بن هشام» و«خلّاد بن خالد».

وظنى أن خبرة الشيخ الأريب بالقراءات، وبالمقامات الأساسية، جعله يفهم ضرورات استخدامها، كما يبدو من تسجيلاته الغزيرة،

فـ «الصبا» مثلا ملائم للآيات الروحانية، ومعانى الحزن والحسرة، وأهوال القيامة، ويمكن للمقرئ استخدامه للوصول للقرار والجواب بتتابع منتظم.

ويمتاز «النهاوند» بالحنان والرقة والهدوء، ويهيمن عليه الخشوع، ويُقرأ فى آيات النعيم والسرور والشوق والمناجاة. و»نهاوند» مدينة إيرانية اُشتق منها اسم المقام.

وينطوى مقام «العجم» على تعظيم وجدية، وملائم لمعانى النصر والجلال الإلهى.

أمَّا البياتى ففيه مُتّسع لتقلب الأحوال، ويعبر عن آيات التوحيد والعقيدة، وهو سهل ممتنع، هادئ كبحر عميق، مفعم بالرهبة، وبه تبدأ القراءة وتنتهى، ويدعو للتفكر فى معانى الآيات.

وطابع «السيكا» البطء والتمهل، وكلمة «سيكا» بالفارسية «سه گاه» تعنى الوَتَر، ويفضل فى آيات البشارة، وفى الندب والشجون، ويستخدم فى القصص القرآنى، وهو مقام «طلع البدر علينا» التى غناها أهل المدينة يوم استقبال الرسول فى هجرته من مكة.

ويكمن الشوق المشوب بالحزن فى مقام «الحجاز»، ليوافق آيات الحزن، والعطف والجنة، وذكر يوم القيامة، ومناسب للآذان، ويتميز بالشفافية.

و«راست» كلمة فارسية تعنى الاستقامة، وتؤهله فخامته وأبهته، لاستخدامه فى الآيات التى تبجل وتعظم الله عز وجل، والآيات ذات الطابع القصصى والتشريعى، واستعراض قدرات الصوت، ونِعَم الجنة، ويفضله معظم القراء فى التجويد، بعد البياتى مباشرة، ولأنه من أفضل المقامات و أجملها لُقب بـ «أبو المقامات».

وتُقرِّب السلاسة مقام «الكُرد» للأذن، لامتيازه بالشجن والعاطفة، ولأنه يبدأ وينتهى بـ «رى»، ويناسب آيات الإرشاد، ومعجزات الأنبياء، وعظمة الله تعالى، وتُقرأ به آيات التأمل، ويُعبّر عن أحاسيس داخلية للقارئ.

حبه لأغانى عبدالوهاب

ومراوحة الشيخ «عبدالباسط» بين هذه المقامات، وفنون القراءات، جعله «كروان القرآن» فى نظرى بلا منازع. ولا أرانى هنا مفارقا الحقيقة، فبين صوته وصوت ذلك الطائر الشجيّ تشابه كبير، فكلاهما معدنى له صليل نقى، ومن طبقة الجواب المفتوحة على أعالى الصوت، التى تحلق فى أفق مفتوح بلا قرار، وطول النفس، ومن يسمع أحدهما يمكنه استحضار الآخر بغمضة عين واحدة!!

و«الجواب» فى «علم السمعيات»، هو النغمات أو الطبقات الصوتية التى يصل ترددها إلى أعلى نهايات سمع الأذن البشرية، وفى الموسيقية يعنى النوتة المرتفعة، أى الحادة. الأعلى من 2 تون، والتون يتكون من 8 مقامات، وربما يزيد على هذا المعدل لدى بعض الأصوات مثل الست «أم كلثوم»، وهى درجة لم تصل إليها امرأة قبلها. والتى يتشابه معها الشيخ عبدالباسط فى انتقالاته بين المقامات بسهولة وجمال.

ومعروف عن «الشيخ عبدالباسط» حبه لأغانى الفنان الكبير «محمد عبدالوهاب»، وأنه كان يرى «أم كلثوم» معجزة قلما يجود بها الزمان، وأنها «فى الطرب معجزة» مثل الشيخ «محمد رفعت»، و«فيهما سحر من عند الله»، وأن «عبدالحليم» «مش بطال»، كما كان يحب أداء «فاتن حمامة» و«يوسف وهبى».

وتصنيف صوت الشيخ «عبدالباسط» هو «ميتزو سبرانو»، أى متوسط، بين الغليظ «ألترو» النسائى، والرفيع «سوبرانو». والإنسان العادى لديه فى حنجرته حبلان صوتيان، يتراوح طول كل منها 17 إلى 22 مم، وخامة صوت الشيخ تُرجِّح أن حبليه الصوتيين بطول 22 مم، بجانب مزيّة المرونة الهائلة التى تمنحه سلاسة التنقل بين الطبقات، وتمكنه من تعديل «مستوى الجواب» حسب المعانى بشكل ملحوظ، لتمايز النغم فى الحالين، فيشحنها شجنا مع الآيات الحزينة، ويُوّشيها بالفرح فى آيات البشارة والمثوبة، والتبشير بالجنَّة!!

والجواب لدى «عبدالباسط» يعنى زيادة اهتزازات نبرات صوته، وهذه تعرف فى اللاتينية بـ «triplum» وفى الإنجليزية «treble» أى الثالث، للدلالة على المجال الموسيقى الصوتى الثالث والأعلى، أى «الحاد»، ويعنى أيضا ارتفاع الجواب بما يلائم الترددات المتوسطة والقرار، الذى يمكن للشيخ الانتقال إليه بيسر بعد تحليقة طويلة فى الجواب، كما يفعل فى قصار السور الشهيرة.

وقصار السور هذه تحديدا، تجعلنا نتأمل المقولة الشهيرة عن «سرقة النفس» فى أثناء القراءة دون وقفات يلاحظها المستمع، أو تمتُّع الشيخ بالنفس الطويل، أى تدريب رئتيه، وحجابه الحاجز على أخذ نفس عميق جدا قبل بدء التلاوة، ثم خطف الأنفاس بنعومة وسرعة بين الآيات، لاستكمال القراءة بلا توقف، فتتصل المتعة، وهو ما تميز به الشيخ عبدالباسط أكثر من غيره، وربما كان الأكثر تفردا بين الكبار فيها.

وجدير بالذكر أن تسجيل «قِصَار السور» الشهير هذا، انتشر أكثر من ألبومات أكبر المطربين، حتى أن كل المحال التجارية، وسيارات الأجرة، كانوا يستفتحون يومهم بها، خاصة سور «التكوير والطارق والغاشية والبلد والشمس والفاتحة».

ومن الأشياء التى استوقفتنى أيضا، اقتران صوته باسم «بلال بن رباح» مؤذن الرسول، حيث سجل الشيخ «عبدالباسط» الأذان على لسان «ابن رباح» فى فيلم «الرسالة» الشهير للمخرج المعروف «مصطفى العقاد»، وهذه المفارقات تلفت نظرى عادة، وأعتبرها غير عادية. وكما نستعذب صوت «عبدالباسط» ونأنس له، كان الرسول الكريم يقول: «أرحنا بها يا بلال». وتشاء الأقدار أن يقترن صوتيهما!

وشاءت أقداره أيضا، أن يتأثر صوته كثيرا نتيجة إصابته بالسكر، ويبدو أن هذا أصابه بحزن عميق، بعدما انصرف محبوه إلى تسجيلاته القديمة.

وتفاقمت أوجاع كبده، فنصحه الأطباء بالسفر إلى لندن للعلاج، لكنه أحس هناك بدنو أجله، فطلب من ابنه أن يعيده إلى مصر، ليسلم روحه فيها يوم الأربعاء 30 نوفمبر 1988، ويفارق الحياة مصحوبا بشفاعة القرآن، لأعذب صوت ردَّده فى حياتنا.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق