تشير متابعة التاريخ المصرى إلى أن كثيرا مما تواجهه مصر حاليا من تحديات ومشكلات على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الثقافية ليس جديدا عليها. إذ أن بعض تلك المشكلات تعود بدايتها إلى سنوات طويلة مضت أو على الأقل واجهت مصر قبل عقود مضت. بعض تلك المشكلات تم التعامل معها، ولكن الكثير منها ظل دون حسم خاصة على المستوى الاجتماعى والثقافى والديني، وظلت تلك المشكلات عالقة أو كامنة تحت جلد المجتمع المصري. وبدا أن المجتمع المصرى إما تعايش معها أو تجنب مواجهتها مواجهة جدية. العودة إلى ما كان مثارا لدى المصريين من مشكلات وهموم قبل مائة عام هى محاولة لمعرفة أسباب النجاح والفشل فى التعامل مع تلك المشكلات. النوستالجيا أو الحنين للماضى جزء من ثقافتنا ولكنه حنين لمشاهدة الذكريات والتباكى على ما كان الذى يتصور المصريون دائما تحت وطأة ما يواجههم من ضغوط ومشكلات أنه الأفضل دائما من الواقع الذى يعيشونه. ومن ثم يبدو المصريون دائما مشغولين بماضيهم بأكثر من انشغالهم بمستقبلهم، وبالتالى فليس من قبيل المصادفة أن كثيرا من الخلافات والجدل دائما ما يثور بين المصريين بشأن قضايا من الماضي، وقليلا ما توقف المصريون فى عمومهم عند ماضيهم لاستخلاص دروس تعينهم على المستقبل. وفى محاولة لاختبار طبيعة العلاقة بين المصريين وماضيهم وقدرتهم على التعايش مع المشكلات التى لم يستطيعوا حسمها، جاء التفكير فى العودة إلى رمضان عام 1920 للوقوف على طبيعة المشكلات التى عاناها المصريون وما زالت مستمرة معهم حتى اليوم وتلك المشكلات أو القضايا التى أصبحت ماضيا بالفعل. وهى الفكرة التى قدمها كاتب تلك السطور فى برنامج تليفزيونى على قناة المحور باسم 100 سنة رمضان.
كانت الصحافة وفى مقدمتها الأهرام والمجلات الشهرية السياسية والثقافية مشغولة بشكل رئيسى بالقضية الوطنية أو قضية الاستقلال على خلفية تطورات ثورة 1919 وجهود الوفد الذى يقوده سعد باشا زغلول للتفاوض مع الانجليز، والتصدى لمحاولات الانجليز شق صف الوحدة الوطنية ولحمة المصريين وتأييدهم لسعد باشا، ولكن ذلك لم يمنع مناقشة العديد من القضايا الأخرى مثل التعليم والطب والدعوات المتكررة لتعريب التعليم والطب ربما باعتبار ذلك تأكيدا على الاستقلال الوطني. قضية المساواة بين الرجل والمرأة والدعوات لتحرر المرأة كانت حاضرة بقوة ويدور بشأنها مناقشات وحوارات عديدة على خلفية الجهود والدعوات التى أسس لها قاسم أمين واللافت للنظر أن الحجج والأسانيد التى كان يستخدمها كل فريق سواء الداعى لتحرر المرأة أو لإبقاء وضع المرأة على ما هو عليه هى نفس الحجج والأسانيد التى ما زالت تطرح حتى الآن من قبل الفريقين نفسيهما رغم كل ما تحقق على طريق تحرر المرأة قياسا بما كان عليه الحال قبل 100 سنة. ومن ضمن القضايا المتعلقة بالمرأة كانت قضية تعليم المرأة الذى كان فى حدود ما قبل التعليم الثانوى حتى عام 1920 حين تم تأسيس أول مدرسة ثانوية للبنات فى مصر. وكما هو واضح فإنه فيما يتعلق بالمرأة استطاع المصريون خلال مائة عام حسم قضية تعليم المرأة ولم تعد محلا لأى خلاف، بينما ما زال المجتمع يناقش ويختلف حول مسألة المساواة بين الرجل والمرأة والزى المناسب للمرأة وأهليتها للقيادة. كما كان لافتا للنظر وربما مثيرا للدهشة الأخبار التى تتابع محاولات الصلح فى قضية ثأر بين عائلتى الأشراف والحميدات بقنا والتى تشعر معها أن المجتمع لم يتطور خطوة واحدة فى طريقة التعامل مع مثل ذلك النوع من القضايا، فالأخبار كانت تشير إلى عقد جلسة للصلح يحضرها المشايخ وأعيان البلد ومسئول المحافظة سواء كان المحافظ أو مدير الأمن. وبالطبع فليس صعبا إدراك أن تلك الطريقة هى المسئولة أو على الأقل هى سبب رئيسى لاستمرار تلك الظاهرة فى المجتمع وفشل المجتمع فى التصدى لها والقضاء عليها من جذورها. القضية الأخرى التى ربما تصورنا فى بعض الأوقات أنها قد انتهت من تاريخ مصر هى قضية الاغتيالات السياسية. فقد شهد عام 1920 وحده أربع محاولات اغتيالات سياسية فاشلة. ثلاث محاولات كانت لوزراء فى الحكومة هم وزير الزراعة محمد شفيق باشا فى 21 فبراير 1920. ووزير الأوقاف حسين درويش فى 8 مايو 1920، ووزير الأشغال إسماعيل سرى فى 8 ديسمبر 1920، والرابعة كانت لرئيس الوزراء محمد نسيم باشا الذى تسلم رئاسة الوزراء من يوسف وهبة باشا الذى تعرض هو الآخر لمحاولة اغتيال فى نوفمبر 1919. الغريب كان كثير من محاولات الاغتيال تلك قام بها شباب صغير السن فبعضهم كان فى المرحلة الثانوية، والأهم أنه فى محاولة اغتيال وزير الزراعة قال المتهم فى التحقيقات انه لم يكن يفكر جديا فى اغتيال الوزير وإنما هدفه فقط كان إرهابه بدليل أنه ألقى القنبلة بعيدا عنه حتى لا يصاب! الأمر الذى يشير بوضوح إلى استغلال هؤلاء الشباب من قبل أطراف وتيارات أخرى لتنفيذ تلك العمليات. وهو الأمر الذى عانت مصر منه بعد عقدين أو ثلاثة بحوادث اغتيال نفذتها جماعة الإخوان المسلمين والجماعات التى تدور فى فلكها، ويطل على مصر مرة أخرى فى السنوات الأخيرة على يد نفس الجماعات التى تعرف كيف تستغل وتجند الشباب باسم الدين، وذلك من خلال العديد من العمليات الإرهابية كتلك التى استهدفت وزير الداخلية الأسبق اللواء محمد إبراهيم والنائب العام المستشار هشام بركات ورجال الداخلية والقوات المسلحة ومنهم العقيد أحمد المنسى الذى يعرض مسلسل «الاختيار» لرحلته فى القوات المسلحة حتى استشهاده. وبينما كانت الأحكام فى الاغتيالات السياسية تصدر سريعا وفيما لا يتجاوز عدة أشهر فإن الأحكام فى قضايا الإرهاب فى السنوات الأخيرة تستغرق سنوات وسنوات. وكما أن الاغتيالات السياسية لم تعرف قبل 100 عام حرمة للشهر الكريم، فإن الإرهابيين اليوم لا يعرفون له حرمة أيضا، بل ويستغلون وباء كورونا وانشغال الدولة به لتنفيذ أعمالهم القذرة. فالهدف كان وما زال إسقاط الدولة وإفشال جهود تحديثها والحيلولة دون أن تتبوأ مكانتها التى تستحقها.
لمزيد من مقالات د.صبحى عسيلة رابط دائم: