رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المتن المقدس والمتون البشرية (١)

إن المشكلة لا تكمن أبدا فى القرآن الكريم وما ثبت من صحيح السنة متنا وسندا، لكن المشكلة الحقيقية تكمن فى الذين يريدون أن يوحدوا بين متونهم البشرية والمتن المقدس! المشكلة تكمن فى عقول أولئك الزاعمين لامتلاك مفاتيح الحقيقة المطلقة ويجاهدون من أجل حصار اتساع معانى المتن المقدس فى حدود عقولهم المغلقة القائمة على الحفظ والاسترجاع، (..لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 179)، فهم لا يعرفون التعقل ولا التفكر، ولا يعرفون إلا التبعية والتقليد والحفظ والاسترجاع للنصوص دون تدبر، مثل الأنعام التى تسير خلف حاديها.

إن المشكلة التى نواجها هى فى الأساس مشكلة منهجية ومغالطة معرفية، تكمن فى تلك العقول المغلقة التى ترعرعت فى حاضنات التفكير الجامد والأحادى التى تقوم على الحفظ والتبعية لبشر، وتوحد بين المتن المقدس والمتون البشرية!.

وحتى لا ندخل فى جدال ينقلنا إلى مربع آخر، فنحن هنا لا نتحدث عن الأصول العقائدية ولا عما عُلم من الدين بالضرورة، فهى ثابتة ولا ينبغى الاقتراب منها، بل عن نتحدث فى مربع قابلية المتغيرات فى الإسلام لأحكام متجددة، وقابلية نصوص متننا المقدس لتفسيرات متعددة طبقا لمعاجم اللغة وأساليب العربية والواقع المتغير والمقاصد الكلية للشريعة إلخ.

نحن نتحدث عن مرونة المتن المقدس فى آياته ظنية الدلالة والحمالة للأوجه والمتعددة المعانى، ولا نتحدث عن مربع آخر وهو مَن يقوم بالتجديد، ولا عن مربع ثالث وهو ضوابط التجديد. هذه المربعات وغيرها لها أحاديث أخرى، ولا يمكن أن نتحدث فى كل شيء فى مقال واحد ولا فى محاضرة واحدة ولا حتى فى كتاب واحد. فلا يخرج نفر يطلبون الإجابة على كل شيء فى حديث واحد! ولا يخرج نفر يحكمون على الكل بالجزء! ولا يخرج نفر يحكمون دون أن يقرأوا حتى سطرا! وفى كل الأحوال أشك أن أنفسهم تقوى على قراءة كتاب حتى نهايته! ولا حتى مقال حتى نهايته، إنهم ينصبون أنفسهم كقضاة على البشر، لكنهم قضاة يكتفون بالإنصات لأحاديث طرف واحد دون الطرف الآخر ودون النظر فى الأدلة والدفوع!.

إننا نحترم المتون البشرية، لكننا لا نحولها إلى متن مقدس، نحترمها بوصفها جهودا بشرية قابلة للصواب والخطأ، بها الإيجابى وبها السلبي. ومن الخطأ والخطيئة التعامل معها ككتلة واحدة، إن المدافعين عن التراث البشرى كله ككتلة واحدة يناقضون أنفسهم لأن الفرقة العقائدية التى ينتمون إليها تؤكد خطأ بقية الفرق العقائدية الأخرى فى التراث نفسه، أى أن تيارات التراث نفسها يرفض بعضها بعضا، بل إن بعضها يكفر بعضا!.

وقد قام علماؤنا الأجلاء فى التراث بمحاولات كبيرة منها الصواب ومنها الخطأ؛ من أجل تنزيل معانى الوحى على أرض الواقع ومتغيرات التاريخ، طبقا لظروف كل عصر، وطبقا لاختلاف مناهج الفهم البشرية المتباينة من مدرسة علمية إلى أخرى. وقام آخرون أيضا فى التراث بتفسيرات تشكل دوائر سوداء مليئة بالعناصر الميتة والسلبية وتخرج عن مقاصد الشِريعة والمنهاج اللذين جعلهما الله لنا، مثل القرامطة والخوارج وغيرهم من المتحالفين مع المرابطين عند دوائر الموت والكراهية. فهل المدافعون عن التراث كله ككتلة واحدة صماء يدركون مخاطر هذه النعرة القبلية التى تورطهم فى الدفاع عن البقع السوداء؟.

إن متون التراث البشرى ليست حاكمة على القرآن الكريم والسنة الصحيحة، بل إن المتن المقدس هو المعيار وهو الحاكم على التراث فى حدود التفكير النقدى الذى أمرنا المتن المقدس بإعماله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (سورة محمد: 24). وبواسطة المتن المقدس يمكن أن نقبل المعقول فى التراث، وبالمتن المقدس نرفض اللامعقول فى التراث، فى حدود العقل النقدى الصريح والضوابط العلمية. ولذا لابد من مجاوزة التراث للوصول إلى المنابع الصافية (القرآن الكريم والسنة الثابتة الصحيحة سندا ومتنا). وهذا لا يعنى إهمال التراث، بل يعنى إخضاعه للفحص النقدى العلمي؛ وإذا ما فحصنا التراث الذى يدافع عنه أصحابُ التعصب القبلى كله ككتلة واحدة، سوف نكتشف كثيرا من الأساطير والخرافات والأحكام المنافية للعقل الصريح، وسوف نكتشف أن قاسما كبيرا من التراث تم تقديمه بوصفه مقدسا لا يمكن نقده، ونسى هؤلاء أنه لا يوجد إلا متن مقدس واحد هو الدين المكتمل لحظة قوله تعالى :(اليوم أكملت لكم دينكم)، وفى خطبة الوداع قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: «فلا ترجعن بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإنى قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت ... اللهم فاشهد» (لمزيد من التفصيلات يمكن الرجوع لكتابنا : حجة الوداع، المنشور منذ 35 عاما، فى عام 1985 م، مكتبة المختار الإسلامي).

فهنا اكتمل الدين وكل ما جاء بعد ذلك هو متون بشرية يؤخذ منها ويُرد عليها. إن ما ندعو إليه هو فهم القرآن بالقرآن وما بينته منه السنة الصحيحة فى حدود التفكير النقدى الذى دعا الوحى نفسه إلى إعماله، أما الوحى الموازى الذى صنعه البعض فهو لا يلزمنا فى شيء إلا بعد فحصه فحصا عقلانيا نقديا فى ضوء القرآن والسنة الصحيحة وحسب المعايير العلمية فى فهم النصوص.

وقد يتساءل البعض قائلا: إننا لم نسمع عن الوحى الموازى. وهنا يجب إيضاح أن زعم القداسة لأى متن بشرى هو وضع له فى مرتبة الوحى الموازى، وكذلك محاولة إلزام الناس بأفكار وأحكام ليست معلومة من الدين الخالص بالضرورة إنما هو بمثابة إعطاء إلزامية لها مثل إلزامية الوحي. إن من يلزمون الناس باتباع متن بشرى معين تبعية مطلقة دون فحص، إنما يقدسون هذا المتن البشرى ويضعونه فى مرتبة الأحكام الإلهية دون أن يشعروا. فلا يجب أن نلوم مَن يدافع عن منابع الوحى الصافية الثابتة فى مواجهة فرق عقائدية بشرية تصيب وتخطئ، بحجة الدفاع عن التراث كله دون تمييز.

وإذا ما استخدمنا العقل النقدى العلمى فى فحص تراث المتون البشرية بكلمات المتن المقدس الصافي، سوف نكتشف أمورا كثيرة إيجابية، لكننا أيضا سوف نكتشف أمورا أكثر سلبية تم تحميلها على المتن المقدس وليست منه، وسوف نكتشف عناصر كثيرة هدامة ورجعية، كما سوف نكتشف عادات اجتماعية تم حسابها بوصفها دينا وهى ليست فى متن الوحي، كما سوف نكتشف أنه تم التعامل معها بوصفها وحيا موازيا، مع أنها من صنع تيارات بشرية أضفى البعضُ عليها قداسة، ودافع عنها كل متقنع بالفضيلة بوصفه حامى الحمى وبنعرة قبلية يظهر فيها وكأنه المدافع عن الأمة، فهو يملك صك الغفران ومفاتيح الحقيقة! مع أن الدفاع الحقيقى عن الأمة يكون بالعمل على تخليصها من الأمراض المزمنة التى لحقت بها، وأول طرق العلاج أن نعترف بالمرض، لا أن نكابر وندعى العافية. ومن طرق تشخيص العلاج إجراء عمليات التحليل النقدى للكشف على المكونات الأصيلة وعناصر العدوى، وما ينتمى إلى الجسم طبيعيا وما هو عارض مرضي. وشيء مثل هذا يجب أن نفعله مع المتون البشرية، حتى نعرف العناصر الإيجابية والعناصر السلبية. فهل معنى هذا أننا نتعامل بالمفهوم القديم عن «تنقيح التراث» وكفى؟ الإجابة فى مقال قادم إن شاء الله تعالى.


لمزيد من مقالات د. محمد الخشت

رابط دائم: