دخل الصراع الصينى الأمريكى مرحلة جديدة بإعلان ترامب عن نيته قطع العلاقات مع الصين، والرد الصينى القوى والسريع بأنها ستتخذ قرارات بعقوبات مؤلمة للولايات المتحدة، وهذا الرد الصينى سيجبر ترامب على المزيد من التصعيد،لإثبات أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بهيبتها كأقوى دولة فى العالم، وعندما نكون أمام مواجهة وشيكة بين دولتين كبيرتين، علينا أن نتعرف على مكامن القوة والضعف لدى الطرفين، وشكل المواجهة التى لا يمكن أن تكون عسكرية مباشرة، فالولايات المتحدة تستند إلى أن ناتجها القومى هو الأكبر بواقع 19 تريليون دولار سنويا، مقابل نحو 14 تريليون دولار للناتج القومى الصيني، لكن الشكوك تحيط بهذه الأرقام، فاليوان الصينى يجرى تقديره بأقل من قيمته مقابل الدولار والعملات الأخري، وهى شكوى دائمة من جانب الولايات المتحدة التى طالبت الصين برفع قيمة عملتها، لكن الصين ترى من مصلحتها أن تبيع منتجاتها بأسعار رخيصة، تضمن أن تكون مصنع العالم، والدولة الأكثر إنتاجية، كما تقدم الصين خدمات مجانية لمواطنيها فى الصحة والتعليم وغيرهما لا يتم احتسابها فى الناتج القومي، وإلى جانب ذلك فإن الولايات المتحدة تستهلك أكثر مما تنتج بنحو 500 مليار دولار سنويا، ولهذا تحقق عجزا كبيرا فى الميزان التجاري، بينما الصين تحقق فائضا كبيرا، وتمتلك أربعة بنوك عملاقة بين أكبر عشرة بنوك فى العالم، ولديها استثمارات متزايدة فى الولايات المتحدة وأوروبا ومعظم دول العالم، بينما بلغت الديون الأمريكية 24 تريليون دولار، أى إن الصين فى وضع اقتصادى أفضل، وإذا كان الشائع أن الولايات المتحدة أكثر إنتاجية، فالواقع يقول إنها الأكثر مديونية واستهلاكا، ومعدل النمو فيها لا يتجاوز 3% سنويا، مقابل ما بين 9% و10% فى الصين، وبعد تفشى فيروس كورونا ونجاح الصين فى احتوائه وتعثر الولايات المتحدة فإن الأمور تسير فى صالح الصين، التى حاولت امتصاص أو تجنب أى معركة، طالما أنها الأسرع تطورا، بل ستهز السيطرة الأمريكية فى عدة مجالات أهمها شبكة الإنترنت الصينية فائقة القوة من الجيل الخامس، سرعتها نحو 20 مرة الإنترنت الحالي، وتخدم مليون مستخدم فى كل كيلو متر مربع، وتحاول الإدارة الأمريكية عرقلة تمدد هذه الشبكة الصينية بأى وسيلة، وتروج بأن لها أضرارا تتعلق بأمراض وتجسس، وتشن حربا على شركة هواوى الصينية لكونها إحدى أدوات التفوق الصيني.
لكن ما عجزت عنه الصين حتى الآن هو إنزال الدولار الأمريكى من عرش العملات، فهو المرجع لقيمة أى عملة أخري، وكذلك تمتلك الولايات المتحدة أقوى جيوش العالم، وإنفاقها العسكرى أكثر من الدول العشرين الكبرى مجتمعة، وارتفع إلى نحو 750 مليار دولار، أما الصين فيبلغ إنفاقها العسكرى المعلن نحو 180 مليار دولار، لكن هناك شكوكا فى أنها تنفق أكثر على أجيال جديدة من الأسلحة، ومع ذلك فمن غير الممكن اشتعال صراع مسلح بين البلدين، ولا حتى صراع اقتصادى كبير، بسبب تفشى وباء كورونا. والمرجح أن تختار إدارة ترامب إحدى الدول الحليفة للصين، ولا يمكن طبعا أن تختار الصدام مع روسيا القوية، ولا حتى كوريا الشمالية النووية، ولا إيران القادرة على إيذاء المصالح الأمريكية وقواعدها فى المنطقة، أم الاشتباك الواسع مع سوريا أو حزب الله فسيعنى الدخول فى حرب مع إيران وربما روسيا، ولهذا لا يتبقى إلا اختيار إحدى أو بعض دول أمريكا اللاتينية مثل فنزويلا أو كوبا، لكن فشل محاولة التسلل لقوات من كولومبيا تضم أمريكيين أربكت الولايات المتحدة، التى ستفضل استخدام أدوات إثارة الفوضى الداخلية من خلال مجموعات من المجتمع المدنى المتلقية للتمويل، إلى جانب شركات أمنية تحول بعضها إلى ما يشبه جيوش متعددة الجنسيات، لا يمكن مراقبتها أو محاسبتها، وتعتمد على تجنيد شباب من دول مختلفة يحتاجون إلى أى عمل ومال، لكن عيب هذه الشركات أن أفرادها لا يجمعهم أى دافع أو انتماء سوى المال، وأول من يهربون من ساحات المعارك عند شعورهم بالخطر، ويمكن أن يشعلوا حروبا من أجل مصالحهم الخاصة. ورغم أن ترامب يمكن أن يكتفى بالحرب الكلامية، ويخشى إشعال النيران فى ظل تفشى وباء كورونا، فإن اتهامات الحزب الديمقراطى المنافس له بالضعف تلاحق الإدارة الأمريكية، وقد تدفعه إلى المخاطرة والاندفاع نحو أى نوع من الاشتباك المضمون النتائج، لكن التراجع الأمريكى سابق على تولى ترامب الرئاسة، وجاء انتخابه نتيجة الأزمة الأمريكية وتعبيرا عنها، ومن الصعب أن يتمكن منافسه جو بايدن أن يفعل الكثير لوقف التراجع الأمريكي، وفى كل الحالات فإن العالم قد تحول بالفعل إلى التعددية، ويودع الأحادية الأمريكية، مهما تكن سيناريوهات المعارك التى تصاحب دائما تلك التغيرات الكبيرة.
لمزيد من مقالات مصطفى السعيد رابط دائم: