كتب د. جابر عصفور يوم الأحد الماضي في الأهرام عما سماه معركة الطبيب والفقيه حول قضية حمل الأربع سنوات، أما الطبيب فهو أنا العبد الفقير إلي الله، وأما الفقيه فهو د.علي جمعة الشيخ الجليل والمفتي السابق، وكنت أنا من أوائل من فجروا تلك القضية منذ أكثر من عشر سنوات حين استمعت صدفة إلي حوار المفتي د. جمعة مع الصحفي الراحل محمود فوزي والتي ذكر فيه معتمدا علي كتب الفقهاء أن الحنفية يرون أن أقصي مدة للحمل قد تطول إلي سنتين، والمالكية والشافعية أربع سنوات، والبعض يري أنها خمس سنوات، والبعض مدها إلي أكثر من ذلك!، تلك المعلومة التي صدمت عقلي ولم أستطع وقتها أن أغض الطرف وأمارس فضيلة الطناش، وأن أضحي بكل ما درسته في كلية الطب في سبيل تصديق هذا الكلام حتي ولو كتبه أعظم الفقهاء وقالته أضخم العمامات، أو أن يفزعني البعض بأن لحوم الفقهاء والعلماء مسمومة فأوثر السلامة وأخرس وأتجنب الخوض في حقول الألغام.
وسأصدم د.جابر عصفور الذي انتصر للطبيب علي الفقيه، وأحبطه عندما أسأله أي طبيب؟، فللأسف الشديد هناك أطباء نساء وولادة هاجموني ودافعوا عن رأي المفتي قائلين وفيها إيه؟!، أكيد حصل أن سيدات زمان حملهن استمر أربع سنوات، هو انت حتعرف أكثر من الشافعي وابن حنبل؟!!، بل وكانت المفاجأة أن هؤلاء الأطباء مقتنعون بأن الإمام مالك نفسه ظل ثلاث سنوات في بطن أمه!، إذن الكارثة يا د.جابر هي أن كثيرا من الأطباء أنفسهم قد باعوا أدمغتهم ومزقوا مراجعهم لقاء نفاق ومغازلة الشارع السلفي المتدروش، هؤلاء قبلوا علميا مالم يشاهده طبيب نساء واحد ولا حتي داية أو قابلة ومالم يسجله جهاز سونار واحد حتي في بلاد آكلة لحوم البشر وساكني الكهوف؟!، وعندما كتبت وقتها وذكرت لهم مايدرسونه ويحفظونه عن ظهر قلب تفنيداً لوهم واستحالة حمل الأربع سنوات مثل أن الرحم يستعد دوما للفظ الحمل كجسم غريب ولكن ضبط الإيقاع الهرموني يجعل الرحم محتفظا بالحمل حتي موعد الولادة، حتي تنطلق شرارة الانقباض التي وضع لها العلماء نظريات منها أن عضلات الرحم عندما تصل لدرجة معينة من التمدد تبدأ الولادة، أو أنه عند نضوج الرئة تفرز مادة البروستاجلاندين التي تذهب لمستقبلات عضلات الرحم فتنقبض استعدادا للولادة، وأظل أذكرهم بأن المشيمة لها عمر محدد لن تتخطاه بعدها ستتليف وتضمر ولن يصل إلي الجنين أي غذاء بعدها، ولو ظل هذا الجنين أكثر من 42 أسبوعاً فهو معرض للوفاة داخل الرحم، ولو أكثر من 43 فسيتوفي حتما، فما بالكم بجنين الخمسين أسبوعا الذي حتما سيتعفن داخل الرحم، ولن يستطيع الطبيب تركه لمزاجه أو انتظارا لمعجزة الامام مالك، فالجنين المتروك ميتاً داخل الرحم سيتسبب في تغيرات في تجلط دم الأم التي ستصبح معرضة للموت، ومعرضة أيضا لجلطات السائل الأمنيوسي التي ستودي بحياتها...الخ.
عندما ناقشت هؤلاء الأطباء المتدروشين ومنهم أساتذة وعرضت لهم هذا الكلام الذي يحفظونه أفضل مني بل يضعون صفرا لطالب الطب إذا قال لهم عكس ذلك في الامتحان كان ردهم أن هناك معجزات وكرامات لايعرفها الا الفقهاء الراسخون في العلم!، يكذبون علمهم ومراجعهم ومؤتمراتهم ومحاضراتهم حتي لايحرجوا فقهاءهم، وإذا انتقلنا من الطب للقانون فسنجد أنه تحت مسمي تطبيق الشريعة قد تسللت لقوانيننا نصوص تتحدث عما يسمي بالحمل المستكن أبو سنة وسنتين وأربعة...، فعلي سبيل المثال القانون رقم 15 لسنة 1929, لا تسمع دعوي النسب لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة الزوج، وفي القانون 131 لسنة 1948 فقرة تقول: حقوق الحمل المستكن يعينها القانون، وفي مرسوم بالقانون رقم 67 لسنة 1980, الحمل المستكن أهل لثبوت الحقوق.. وفي المادة 29 من قانون الأحوال الشخصية «علي الوصي علي الحمل المستكن إبلاغ النيابة العامة بانقضاء مدة الحمل».. وكذلك في المادة 128 من القانون السوري ..الخ، إذن القضية ليست طرفة أو حيلة فقهية ،ولكنها طريقة تفكير عقيمة حنطت عقولنا فتكلست معها خلايا الإبداع، تقديس وتوثين لتراث القدماء وتنصيبهم أنصاف آلهة، بهذا التقديس دخلنا مرحلة الغيبوبة الفكرية، والموت الإكلينيكي لمنهج التفكير العلمي النقدي المتشكك، وصرنا بمثل تلك الفتاوي فقرة ثابتة في برامج الكوميديا والعجائب والطرائف، أرفض مثل تلك الفتاوي الخزعبلية التي صارت فلكلورا في متاحف التاريخ، أرفضها حفاظا علي صورة الدين نفسه، وحفاظاً علي صورة العلم الذي هو طوق النجاة الحقيقي والوحيد.
لمزيد من مقالات خالد منتصر رابط دائم: