قلت في الأسبوع الماضي إن تلاميذ الإمام محمد عبده كثيرون. وهذا أمر طبيعي، لأن الحاجة إلي محمد عبده كانت، ولا زالت، حاجة أمم تعيش ما بين الصين والمغرب. هذه الأمم استيقظت في القرن التاسع عشر علي المستعمرين الأوروبيين يقتحمون بلادها ويتصرفون فيها تصرف المالك المهيمن. وهي عاجزة عن صدهم ومقاومتهم، لأنها لا تملك ما تستطيع به أن تصد أو تقاوم. لقد سقطت أولا في أيدي حكامها الطغاة الذين قهروها واستعبدوها وحرموها من أن تعمل أو تنتج أو تنال ثمرة إنتاجها أو تدافع عن نفسها. وسقطت مع هؤلاء في أيدي الجهلاء المشعوذين الذين نصبوا أنفسهم حراسا للدين وهم لا يعرفون منه إلا القشور المحفوظة يخدعون بها الأميين البؤساء ويتخذونها طريقا للمال والسلطة.
لكن هذا الواقع البائس الذي استيقظ المسلمون فوجدوا أنفسهم فيه ذكرهم بأيامهم المجيدة التي كانوا يملكون فيها كل شيء. القوة، والثروة،والعلم،والعمل. أين ذهب هذا كله؟ ذهب باستسلام المسلمين لحكامهم الطغاة ولفقهائهم الذين قدسوا الماضي بكل ماكان فيه واحتكروا الكلام عنه. وجعلوه فردوسا مفقودا علي المسلمين أن يستعيدوه، فإذا كانت استعادة الماضي مستحيلة فحسبهم أن يقلدوه، والطريق لتقليد الماضي هو تقليد حراسه الذين أقاموا أنفسهم خزنة له وحفظة لأسراره. كيف إذن نخرج مما نحن فيه؟
ـ كيف نستعيد ما كنا فيه من القوة والمنعة والثروة والمعرفة؟ هذا هو السؤال الذي تعددت فيه الإجابات. الإجابة التقليدية التي لم تكن تؤدي إلا للبقاء فيما نحن فيه وهي التشبث بالماضي والإمعان في تقليده. والإجابة العكسية وهي النقل عن الأوروبيين وتقليدهم. ثم تأتي الإجابة الأخيرة التي قدمها الإمام محمد عبده وغيره ممن دعوا لتجديد الفكر الديني تجديدا يكشف عن جوهره الأصيل وينفي عنه ماعلق به في عصور الانحطاط من خرافات وجهالات نعم نعود للماضي، لا لنقلده، بل لنستخرج كنوزه المخبوءة نفهمها في ضوء ماجد في حياتنا وحياة العالم مما ثبتت حاجتنا لفهمه وامتلاكه والانطلاق منه لدخول المستقبل مزودين بأسلحة الماضي والحاضر.
تقليد الماضي لايحيي الحاضر ولايحيي الماضي، بل يقطع ما بيننا وبينهما، لأن التقليد يميت القوي الخلاقة في الإنسان ويفسد علاقته بنفسه وبما حوله، ويمنعه من أن يفكر أو يتصرف أو يختار. وما يقال عن تقليد الماضي الإسلامي يقال عن تقليد الحاضر الأوروبي. نتصل بهذا الحاضر نعم، ونتحاور معه، ونفهم أصوله علي النحو الذي يكشف لنا عما هو مشترك في الحضارات الإنسانية مما يمكن تجربته وتطويعه ليلبي حاجاتنا ويصبح عنصرا من عناصر ثقافتنا ينتمي لها بقدر ما يتفاعل مع عناصرها الأصلية، وهكذا نستطيع أن نتحدث عن كل ما يصل إليه العقل وتطمئن له الفطرة، وعن كل ما يكشف عنه العلم من حقائق وموازين تتحول إلي طاقات وأدوات ووسائل تتقدم بها الحياة الإنسانية وترتقي، حياتنا نحن التي استطعنا أن نجددها ونعيد إليها ما فقدته من طاقات وفضائل، والحياة الانسانية التي لن نكون عالة عليها، بل نصبح فيها أعضاء عاملين مشاركين كما كنا في عصور ماضية.
هكذا شرح الذين دعوا لتجديد الفكر الديني دعوتهم وفي مقدمتهم الإمام محمد عبده ومن تتلمذ علي أيديهم ومن تتلمذوا علي يديه وهم كثيرون كما ذكرت لأن تجديد الفكرالديني علي هذا النحو تجديد لحياة المسلمين في كل مجالاتها، لأنهم بهذا التجديد لايبعثون الحياة في ماضيهم وحده، ولايمتلكون ما سبق لهم أن امتلكوه فحسب، بل يمتلكون معه الحاضر أيضا ويجعلون كلا منهما سبيلا لامتلاك الآخر. فحاجاتهم في الحاضر تفرض عليهم أن يعيدوا فهمهم لماضيهم، وفهمهم الجديد لماضيهم يفتح لهم الطريق لفهم حاضرهم والمشاركة في بناء الحضارة الإنسانية.
نحن ننظر فيما قاله محمد عبده وفيما كتبه وفيما أداه من عمل وشارك فيه من نشاط فنراه يكشف لنا عن تقديم الإسلام للعقل واعترافه بحقه، وحضه علي طلب العلم والنظر في الكون، ونراه يدعو للديمقراطية وللعمل في سبيل الوصول إليها، ولحرية التفكير والتعبير، ويحارب الاستبداد والتعصب، ويجعل المواطنة أساسا لبناء المجتمع، ويعترف بحق المرأة في العلم والعمل والمشاركة في حياة المجتمع ونشاطه. ثم لايكتفي بالقول، بل يناضل لتحقيق مايدعو إليه ويتحمل في سبيله السجن والنفي والتشريد.
من الطبيعي والأمر كما شرحت أن يستجيب له ويتتلمذ علي يديه الكثيرون، وأن يتتلمذ علي تلاميذه من هم أكثر وأكثر. ومن الطبيعي والأمر كذلك أن يكون له أيضا خصوم حاربوه في حياته وواصلوا حربهم عليه بعد أن رحل، لأنه لم يكن مجرد فرد أو مجرد مفكر، وإنما كان باعث نهضة شاملة إن لم تكن تحققت بعد علي الأسس التي وضعها والذي تحقق منها ليس قليلا، فضلا عن أنها تظل راية مرفوعةوهدفا منشودا. وهاهي تستعيد طاقتها في هذه الأيام وتكسب أنصارا جددا.
كما يظهر في انبعاث الدعوة من جديد لتجديد الفكر الديني وفي تبني الأزهر لهذه الدعوة وتأييده لما كان يرفضه ويحاربه من قبل.
الأزهر الآن يقف إلي جانب الدولة الوطنية والنظام الديمقراطي، ويتخلي عن الخلافة التي كان يدعو لها في أيام الملك فاروق. والأزهر الآن يتبني المباديء والمصطلحات السياسية والاجتماعية التي لم يكن يلتفت لها بل كان يعارضها مثل «المواطنة الكاملة»، وحق المرأة في العلم والعمل وتولي الوظائف العليا في الدولة.
ونحن لم نتحدث بعد عن تلاميذ محمد عبده وهو حديث نكمل به حديثنا عن الأستاذ الإمام الذي واصل حضوره بعد رحيله في تلاميذه الذين كانوا بطبيعة الحال مختلفين لأنهم كثيرون، ولأن كلا منهم كان له ميدانه الذي مارس فيه نشاطه وكانت له ظروفه التي تأثر بها في فهمه لتعاليم الأستاذ وفي عمله بمقتضاها أو فيما أضافه إليها أو عدله فيها.
هو مجال مفتوح لمن يستطيع، بل هو عمل ننتظر أن يتحقق وأن يتواصل، لأن الحياة الإنسانية تتطور كل يوم وتطرح أسئلتها التي تحتاج في الإجابة عليها لاجتهاد يظل بابه مفتوحا، يكفي أن نتصور مستقبل الإسلام في أوروبا علي سبيل المثال، كيف يكون؟ وكيف يستطيع المسلم الأوروبي أن يكون مسلما مخلصا لدينه وفرنسيا أو ألمانيا أو إنجليزيا مخلصا لوطنه وحضارته؟ والسؤال بعبارة أخري: هل يمكن أن يكون الإسلام أوروبيا؟
وفي الأسبوع القادم نواصل.
لمزيد من مقالات بقلم ــ أحمد عبدالمعطى حجازى رابط دائم: