عَبَر صوت صاحبه سمّاعة الموبايل فانفجر فى أذنه كالرعد: أسمعت عن المهزلة.. أرأيت مبلغ ما وصلنا إليه .. ماذا يريدون بنا بالضبط.. أيبغونها حريقا.. ألا يدرك هؤلاء الغافلون أنهم إنما سيكونون أول عود حطب فى الحريق؟.. أنصت هو بصبر فرضه عليه الصيام.. وتعلّمه من طول عشرته بهذا الصديق المندفع.. ثم عندما أغلق فاهه لاهثا من شدّة الانفعال قال هو بهدوء: مالك يا عمّ.. لماذا كل هذا الجنون.. رمضان كريم.. ما مشكلتك؟.
عاد إلى الصاحب جنونه فراح يتهته: يا سلام يا اخويا.. ألم تسمع.. ألم ترَ.. ألم تتألم كما أنى تألمت؟.. أنا يا سيدى أحدثك عن هذا الإعلان التليفزيونى الذى خرجت فيه علينا حسناء تبتسم بكل الثقة هاتفة (لا فُضّ فوها) بأن الناس فى ذاك الكومباوند كلهم شبه بعض. هزّ هو رأسه متعجبا وقد أرهق الجوع عينيه ونشّف لسانه فكاد يهلك: وماذا فى ذلك.. هى حرة.. هذا حلمها فأين القضية.. أتريد الحجر على آراء الناس وأحلامهم يا هذا؟. زعق الصاحب بعِزم ما فيه: يا بنى آدم كبّر مُخّك الغليظ هذا.. أنا لا تعنينى هذه السيدة، ولا غيرها، وإنما أزعجنى المنطق وراء عبارة (شَبَه بعض).. فهل الناس الذين داخل الكومباوند غير الناس الذين خارجه؟.. هل هؤلاء من طينة نظيفة والآخرون من طينة محروقة مثلا؟.. هيا هيا.. قل لى رأيك بصراحة. صمت هو برهة وأخذ يبحث عن بعض اللعاب الراكد بزوايا فمه ليبلعه ثم قال متهالكا: تريد رأيى بجد.. إن سيدة الإعلان لم تخطيء فى أى شيء بل أنطقها الله بالحق.. نعم إنهم هناك ليسوا مثلنا ولا يريدون أن يكونوا.. ولن يكونوا..هه.. هذا رأيى فإن عرفت عنوان أبى فاذهب واشكُنى إليه!.
قبل أن يزعق الصاحب زعقة حمقاء أخرى عاجله هو باستكمال وجهة نظره (التى لطالما آمن بها.. بل ودعا إليها!): نعم.. نحن لسنا مثل بعض.. لسنا متساوين.. ما كنا فى الماضي.. ولن نكون فى المستقبل.. وكفانا دفنا للرءوس فى الرمل. أراد الصاحب أن يصرخ فأسكته: هُسسس ولا كلمة.. ماذا تريدون يا أخي؟ أترغبون فى إسقاط خيبتكم الثقيلة، وفشلكم وكسلكم، وضعف همتكم على ساكنى الكومباوند الأماجد النابهين؟.. لقد كوّنوا ثرواتهم بذكائهم وشطارتهم فأرونى أنتم شطارتكم وابلغوا نصف ما بلغوا.. فيه إيه؟ هل ستغيّرون سنن الكون يا واهم.. لقد خلقنا الله تعالى درجات فى الرزق فاسعوا كما سعوا هُم (من دون أحقاد ولا حسد) ولسوف يرزقكم الله من فضله.
ثم تعالَ هنا: لماذا نكذب على أنفسنا فنغرقها فى الشعارات البراقة والأوهام؟.. هل حدث فى تاريخنا أن كان كل الناس ساكنين للضواحى الراقية والفيلات ذات الروضات أم أن الغالبية ظلت منذ ولدتهم أمهاتهم حبيسى العشش والأرياف وأحياء الفقراء؟.. لماذا تطلبون تغيير الموازين الآن؟.. ثم دعنى أسألك: حتى على مستوى الدول.. أليس ثمّة دول تعيش عيشة الكومباوند (وهى القِلّة).. وأخرى تحيا حياة العشوائيات.. فلماذا تلك الغضبة الدون كيشوتية اللا معنى لها الحمقاء؟.. يا باشا عِش عيشة أهلك.. واحمد ربك على أنك تجد اللقمة.. واتفرّجْ وأنت ساكت.. بلا إعلانات بلا ناس زى بعض بلا بطيخ.. أفيقوا يرحمكم الله!. دمدم الصاحب فى غضب مكتوم: لم أكن أعلم أنك ظالم كاره للغلابة والمساكين إلى هذا الحد؟ ردّ هو بسرعة: يا أفندى لا كراهية ولا ظلم ولا يحزنون.. لا تُكبّر الموضوع بل كبّر دماغك.. تلك سنة الله فى الأرض؛ الناس درجات (ناس فوق وناس تحت) وإلا فمن أين سيأتى الطموح؟.. وعلى فكرة.. كلنا فى داخلنا نتمنى لو نذهب لنقطن الكومباوند.. ولعلمك عندما نقطنه سوف نكرر ما قالته سيدة الإعلان (الناس هنا شبه بعض).. يا أستاذ بلاش لفّ ودوران.. الصراحة راحة. ثم ألم تسمع كبيرا من الأكابر يصرخ ذات يوم: كيف أسمح لابن عامل النظافة باعتلاء الوظيفة الراقية إياها؟ الرجل لم يخطيء صدقني.. لقد نطق بما نؤمن به جميعا فى داخلنا. يا عزيزى كلنا تجرى فى عروقنا دماء الكومباوند الزرقاء لكننا نتعامي!.
اشتاط الصاحب غضبا وغِلّا حتى كادت رائحة الشياط تغطى على رائحة الشواء القادمة من المطبخ.. وزعق بأعلى الصوت: إذن، وبمنطقك هذا، يحق لهؤلاء العائشين خلف أسوارهم المُكهربة أن يضربونا بالحذاء؟ .. هنالك صرخ هو بصوت أعلى من صوت صاحبه: لا.. لا يحق لأحد، أيّا كان , وأيا كانت مكانته، أن يضرب أحدا أو يهينه.. فنحن جميعا بشر لنا كرامتنا واحترامنا وإنسانيتنا، سواء سَكنّا قصرا أو نمنا فى عُشّة بالخلاء.. فأرجوك لا تحوّر كلماتى والزم حد الأدب.. نحن فى رمضان والدنيا صيام.. والآن اسمح لى بالانصراف فقد أوشك المدفع على أن يضرب!.
لمزيد من مقالات ◀ سمير الشحات رابط دائم: