رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حجر مـنزلى

مدحت شنن;

لم يكن يتخيل أن يأتى اليوم الذى يُقهر فيه على البقاء فى البيت, واقع جديد فُرض عليه منذ أن أطل كرونا بوجهه القبيح على الأرض، فحرمه من الذهاب لعمله أو قضاء الليل مع أصدقائه، فالكل مذعور لاسيما وأن خيوط مصائرهم تتأرجح فى يد سفاح قاتل.

انتهى سامر الولائم الممتعة, ولحظات الأُنس والضحك, وكغيره لا يعلم متى يُقرر ذلك الكابوس الرحيل، فيُفرج عنه من السجن الذى وُضع فيه على غير إرادته.

تثاءب باب القدر عن الأب الغائب، فعاد عنوة، مدفوعا بوباء يتعقبه ليقبض روحه، التى كانت متسربلة بالشهوة والأنانية، حين عاش كتمثال بارد, شمعى، شكلاً بلا روح، قابعًا على باب بيت يرعى فيه دود الصمت، ويفوح برائحة خريف مخزون.

كانت علاقته بزوجته وولديه علاقة سطحية، شكلها انشغاله ما بين العمل وسهراته، حتى صار البيت ملاذًا للطعام والنوم.

اعتقد أنه يؤدى دوره لمجرد الإنفاق، وأن الأُلفة مُثيرة لحساسية رجولته وسلطويته.

موروث قديم استأثر به منذ زمن طفولته المقموعة، حين عاش فى كنف والد جاف كالصبار، يفتقر لروح الدعابة، فنشأت روحه جرداء مختومة على العقم.

لم يعد لديه ما يفعله سوى مشاهدة التلفاز الذى ينعق ليل نهار بالكارثة، وبجواره زجاجة معقم مغشوشة - اشتراها بأضعاف سعرها من صيدلية وجدى - ورائحة شواء اللحم تخترق أنفه فتُهدِّئ من رُوعه، وتُقلل استياءه من فوزى الجزار ذلك الخرتيت، الذى رفع سعرها خمسين جنيهًا استغلالاً للأزمة.

جلس على المائدة بمفرده، تناول الغداء, ثم العشاء, وحينما سأل علم أنهم قد أكلوا.

مر يومان على هذا الحال، بلد يمرح فيه سفَّاح, وبيت لا تتحرك فيه إلا أطراف الغربة، يأويه وأسرته، ومع ذلك ألف نفسه وحيدًا بلا رفيق، حينها أحس أن أبناءه يكرهونه فى طينة أعماقهم.

لأول مرة أمضى ليلته يتقلب على نار أشعلها اضطراب فكره, يتساءل عن تلك الحياة التى يعيشها مع أسرته، فى بيت واحد ولكنهم غرباء؟

لم يشعر من قبل بتلك التفاصيل، بعد أن اقتلعت اللامبالاة من حياته عشرين عامًا، عاش خلالها كحطب جاف نائم فى حمرة آصال الصيف, يحيا فى فراغ يلتهم الدنيا من حوله، مشغول عقله بمسائل خارج حدود البيت، فقاقيع فارغة نفخت فيها تجارته وشهواته، فأضلت عقله وسحرت بصره فاعتقد أنها ذات بال.

راقب مَنْ حوله خلسة, ليُنهى حيرة سؤال ينهش فى روحه:

لماذا أشعر بالغربة وسط أسرتى؟

استرق السمع ودقق النظر، بعد أن كانت عيناه تتصفح الوجوه والمناظر، بعقل غائب أخفت عنه الحقيقة.

فى البداية كانت الصدمة حين ضبط ابنه الصبى - متلبسًا بسيجارة، بعد أن اقتفى أثر الدخان القادم من الشرفة، ثم تولاه الذهول حين سمع همس ابنته - عبر الهاتف مع شاب، فأصغى كارها إلى أمور مروعة، وزوجته التى انشغلت عن وجوده بالتواصل مع أصدقائها ليل نهار تارة بالتليفون وتارة بالفيس بوك.

ما بين شهيق الصدمة وزفير الفزع، انكسر فلم يبق فيه إلا شعور باليأس، حين رأى الحقيقة كأنها جوف قبر انكشف، وتمزق بمنقار الواقع، بعد أن شعر بضآلته، لا أحد يشعر بوجوده، أو يُقيم له أى حساب، فذاق مرارة تقصيره، بروح مترعة بالألم مطحونة بالحزن.

كان تفكيره فى الأمر بمثابة نافذة يُطل منها على واقع مخيف، وحين مرقت فى مخيلته صور مزعجة، تشى بانهيار هذه الأسرة، ودخولها مدار التشرد والضياع، كان يصرخ من أعماقه كريح مذعورة، ويسفح الدموع مرارة.

لكنه أدرك أن تلك المحنة كشفت عن حقيقة كانت غائبة عنه، أن ضميره قد مات ورجولته ذُبِحت على قارعة التقصير, بعد أن أسدل بينه وبين أسرته أستارًا كثيفة, فلم يعد يعرف عنهم شيئًا.

وعاودته الأسئلة التى كانت تجلد روحه بكرابيج من نار:

كيف أرحل بأسرتى للمستقبل على سفن من ورق هش؟

كيف أواجه أعاصير البحر الغدار بصدر عار ويد خالية؟

عض بنواجذه على شفتيه، وتفرس فى الأفق بعين شاخصة فى نقطة مجهولة, وتعجب من هذا الشبح الذى ساقه إليه لطف القضاء، فأقعده فى بيته مرغمًا، ليقرع جرس الإنذار قبل الضياع، فرأى الفيروس ومضة أمل برقت فى حياته، ليعود ويقوم بدوره المحتوم.

أدرك حينها أن لزامًا عليه أن يتطهر من أدران الماضى، لينهض بأسرته المهددة بالشقاء، فعاد إلى نفسه بعد أن شيع جثمان ماضيه، يستقبل ما ضاع منه فى طرق الغربة، وبلاد الوحشة حين قدمه قربانًا للريح.

جالسهم واستمع إليهم وأعاد إليهم الحب، ليبنى لهم مملكة لا يُدركها الوصف، ويشفى قلوبهم ويُعيد لها النغم القديم، نديًّا عذبًا كبعث جديد.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق