منذ أن رأيته طالبا فى السنة النهائية لكلية الأحلام كما كنت أسميها وأنا كنت ما زلت أحبو منبهرة بزملائنا الكبار وأساتذتنا ومعيدينا وعلى رأسهم الأساتذة محمود علم الدين وأشرف صالح وسامى عبدالعزيز وغيرهم الذين أصبحوا دكاترة, كل واحد منهم له باع فى مجاله.
منذ أن رأيته وأنا أضعه فى كادر «البروفيسير» بنظارته الطبية الدائرية ونظرته العميقة الساخرة اللاذعة أحيانا. ومثلى مثل الجميع فى بداية الانبهار الصحفى والمهنى لمن هم أكبر منهم, رأيته بعدها وهو يقف فى صالة تحرير الأهرام مع أسامة سرايا وعماد الدين أديب.. وكان قد تخرج ليلحق بركب نجومية من سبقوه فى التخرج على يد جلال الحمامصي, الذى أوجد لكل دفعاته الأولى أماكن للعمل الصحفى فى الجرائد الكبرى. وقف الثلاثة متجاورين يلقون نظرة على صالة التحرير فى مشهد لن أنساه أبدا, وقلت فى نفسى إنهم الفرسان الثلاثة! وبالفعل وبمرور السنين برع كل واحد منهم فى طريقه, وظل عمرو عبدالسميع حائرا بين طريق الصحافة القومية والصحافة العربية, بينما اتخذ زميلاه موقفا واضحا, فكانت مسيرة أسامة سرايا فى الأهرام, واتخذ عماد أديب طريق العرب وصحافتهم ومكاتبهم, حتى كون إمبراطوريته المالية الصحفية. قابلت عمرو عبدالسميع أثناء حيرته الصحفية, وكان يتولى منصبا قياديا لدى الصحافة العربية بمكاتبها المنتشرة فى بدايات الثمانينيات, وكما توقعت لم يكن من السهل على الدكتور عمرو عبدالسميع الإذعان ليعمل فردا, وقد تولى مسئولية مكتب تلك الجريدة السعودية.. وكنا نحن الشعب الصحفى من الشباب مازلنا أنفارا فى جرائدنا القومية فى انتظار التعيين أو الوساطة التى يتقبل بها الكبار تدريبنا, وكان جلال الحمامصى قد غسل يديه من مهمة استكمال مشواره معنا, بعد أن صمم الطلبة الناصريون فى الكلية على عدم عودته للتدريس بعد إصداره كتاب «حوار وراء الأسوار» الذى هاجم فيه جمال عبدالناصر.. فقد كان علينا وكنت أنا منهم العمل هنا وهناك.. ووقعت الواقعة وقابلت الدكتور عمرو, وإذ به يكلفنى متحديا بمسئولية تحديد لقاء مع نزار قبانى شاعر الحب والرومانسية بعد أن عاد نادما فى زيارة لمصر, كانت بمنزلة اعتذار منه عما بدر من هجوم علينا فى حكم السادات واتفاقية السلام.
وهنا اكتشفت أن عمرو كان عبقريا فى التحدى واستفزاز الآخر حتى يخرج منه أفضل ما عنده.. تلك صفة قد تحسب عليه واتهمه البعض بالسادية فى العمل.. لكنها كانت تنجح مع كثيرين, وكنت أنا منهم, ولا أدرى كيف استطعت الحصول على موعد مع نزار قبانى الذى كان يجلس مختفيا وعلى استحياء, حتى تتم دعوته إلى مقاعد المرحبين والقابلين لاعتذاره فى الأوساط الثقافية المصرية, ويبدو أنه استشعر صغر سنى وخبرتي, ووافق فورا على إجراء الحوار. عدت بالموافقة للدكتور عمرو الذى نظر إلى متوجسا فرحا فخورا كأننى نجحت فى الامتحان, وقدمت له أسئلة الحوار, وإذ به يبتسم ابتسامة أعرفها وتعودت عليها من والدى ومن الكبار من أصدقائه, ابتسامة قد يشوبها الغرور, لكنها فى الواقع سعادة الفخور بتلميذه.. وإذ به يضع فوق أسئلتى حوالى أربعين سؤالا لأطرحها فى حوارى مع نزار. أسئلة سياسية أكثر منها ثقافية, وقال لى وهو يضحك «ذاكريها» كويس وحذار أن يسقط الرجل مغشيا عليه!!
وبالفعل كان أجرأ حوار أجراه نزار فى حياته باعترافه فى المسجل الذى حملته بأشرطته الأربعة على قلبي, وقد اصطحبت معى زميلا ليصور اللقاء إثباتا لم يطلبه منى عمرو عبدالسميع, لكنه رفع لى القبعة, لا لشيء إلا لأننى ذاكرت ما كتبه جيدا من أسئلة وأسلوبى فى الأداء, وتنبأ لى بمستقبل فى عالم الصحافة, وكأنه هيكل أمام متدرب صغير رغم أن بيننا ثلاث سنوات فى العمر.. وظل يتندر بهذا الحوار كلما رآنى فى أى مناسبة صحفية يقول: لا أنكر أننى أردت تعجيزك, لكنك أثبت أنك صحفية!
لا أنكر لآننى كنت أحمل هذا الإطراء بين جنباتى بفخر, لكن ظل الحذر قائما بينى وبينه, ولم أعمل معه مرة أخري, وظلت صداقتنا تحمل الندية والاحترام, وكأننى انتزعتها منه وهربت. رحم الله كل زملائى وأساتذتى وهم كثير.
لمزيد من مقالات دينا ريان;
رابط دائم: