رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

التراويح المصرية عِبادةٌ وإبداع!

ساقت الأقدار إنسان زماننا إلى أيامٍ قاسياتٍ، تطحن رحاها كُلَ قُدرَةٍ لدَخْل، وتُكَبِل إجراءاتُها الاحترازية كل مُحاولةً لفِعلٍ، وتُحاصر فيروساتها المستجدة كل حركة إلى الخارج أو الداخل، لكنَّه لا يملك فى مواجهة هذه القسوة إلا أن يظل متمسكًا بالأمل، وفى الحالة المصرية الإنسانية، يَظلُ الأمل رفيقًا للمصرى كلما استبدت الشدائد بأيامه، يواجهها رافعًا شعار اشتدى أزمةً تنفرجي، ويُترجِمها بعاميته بُكرَة تروق وتِحلي، ويُمنى نفسه بذاك غِناءً: إمتى الزمان يسمح يا جميل، وحينما يطول انتظار الفرج، يلجأ المصرى إلى الضحك فى وجه أيامٍ كئيبة، ربما ليستفزها فتُغيِّر حالها، ورُبما ليُمَرّنها على أن تبادله الابتسام عَلَها مع إصراره تُحاول.

دَرَّبَ تتابع الشدائد الشخصية المصرية على أن تترس بالإيمان والابتسام، ينادى مسحراتى الوطن فى روحها لتقوم مُلَبيَّة نِداه، يعِرفُ مفاتيحها مَنْ فَتَح الله لَهُ فيُناديها بما تُحب، وفى بيان ذلك ما سطره القدير الراحل فؤاد حداد على لسان المسحراتي، بيقينٍ فى وطن، ووعيٍ بأهمية المزج بين الإيمان وخفة الظل، (يا ناس حبايب يا ناس جيران، أنا قلبى دايب على البيبان، عجوز شويه لكن عينيه روحين حنان،لا ظنى سييء ولا جبان، درويش وأسطى وشيخ كمان، وفى عبى قطة إزاى حتلعب فيه الفيران)، ولكن هذا التَنبُه المصرى الواعى بالأخطار المحدقة لا يمنَع من اعتراف مسحراتى الوطن بوعثاء الرحلة (تسألنى باتْعَب؟،أقول صراحة شقاية راحة، قوة حصان، لا جل وعشان، قبول عيالى فى الامتحان،وأنا فى بالى حاجات جنان، من الطبالى أعمل صواني، وابنى لخيالى أربع حيطان).

تمنحنا الإجراءات الاحترازية المتزامنة مع الشهر الفضيل، مساحات من التأمل فيما بين تفاعلنا مع معانى الشهر الفضيل رحمةً وتغافرا، وبين انعكاس ذلك على تواصلنا بشاشة وخِفةَ ظل، مع الأخذ فى الاعتبار أن خصوصية الشخصية المصرية مَيَّزت علماء الدين بحضور البديهة التى تحُفل بطرائفها الكُتبُ ومرويات السيَّرْ والنوادر، لَكنْ بعض تدبر فى مشهد واقعنا يُحيلنا إلى اكتشافِ أزمة جديدة تُضاف إلى قوائم أزماتنا ألا وهى الخلط بين الإنتاج المُغَذى للضَحِكْ الذى يُثرى الروح والجسد، وبين الابتذال ثقيل الظل الذى يتسوَّلُ الضحكاتِ عبر حوارات العبث، أو استثمار الشِوَيِتين لدى وجوه الكوميديا التى أنضجتها الشاشات قبل الأوان، أو مقالب الفَزَعْ التى تُغَذى التنمر والسُخرية والاستهزاء والابتذال.

للضحك تفسيره الإنسانى لدى المُخرج المصرى الكبير داود عبد السيد حيث يقول (أعتقد أن الضحك هو ثالث فعل إنسانى للإنسان، إذ إن الإنسان الأول بعد أكله وملء معدته وهو الفعل الأول داعب السيدة حرمه المصون، وهو الفعل الثاني، وعندما أزعجه الإنسان الثالث وهو ابنه الصغير أطاح به فوقع الصبى وبكي، فضحك الإنسان الأول من طريقة بكاء الثالث، ومن أجل هذا أعتقد أن الضحك أحد معالم البشرية ويظهر من خلاله تجليات شخصية الإنسان فيما إذا كان عنيفاً أم رقيقاً، ذكياً أو غبياً)، وفى ضوء هذا التصور الذى يُقدِّمه أحد أهم مخرجى السينما المصرية لا أحد علماء النفس والسلوك أو الأخلاق والعقيدة، يُصبِّح منْ حق المصرى رمضانى المزاج، أن يتساءل عن طبيعة التجليات التى ستُخلفها الكوميديا الرمضانية الحالية فى ضوء سماتها المشهورة لكل متابعٍ سواء من المتخصصين أو من العامة.

خلال عقودٍ أربعة مضت، اختلفَ شَكلُ الطقس العِبادى الرمضانى المصري، بعدما تداخلتْ فى استثماراته تنظيماتٌ دينية، سيست الشعائر، وأممتْ العبادات، وأحالت كُلَ مُتَصِّلٍ بربه إلى البحث فى شكل العلاقة لا تجلياتها، والحقيقة أن هذا الواقع لم يكن مُفاجِئًا قياسًا على خُطوات تحويل الإسلام إلى مشروع على يد حسن البنا ومن سار على نهجه، لكن المُثير للدهشة أنه بالتزامن مع ذلك بدأت عملية تصحُرْ تغزو أودية الضحك المصرية اليانعة، وحين تُطالع ما سطر حسن البنا تكتشف أنَّه فى وصاياه العشر الموضوعة منذ التأسيس اعتبر أن الضحك منافيًا للصلة بالله، وأن خِفة الدم مناقضة لطبيعة الأمة الإسلامية إذ يقول ( لا تكثر الضحك فإن القلب الموصول بالله ساكن وقور. لا تمزح فإن الأمة المجاهدة لا تعرف إلا الجد)!.

التراويح فى أصلِ معناها يرتبط بالراحة، وشاع استخدامها مع صلاة سُنة التراويح فى كُلِ رمضان، عبادة يستريح بها الإنسان ليواصل الكد، وللتراويح فى واقع المصرى إسقاطاتها على كل تَرويحةٍ يُقصد بها إراحة النفوس بكلِ بديع،ليغدو كلُ فنٍ يصنعُ بسمةً فرضًا فى أيامنا المُبتلاة بالجائحة وما سواها، وحِينَ يُقَصِّر صُناعُ البسمة أو يستسهلون أو يستهترون بما يُنتجون يتحولون من خانة المُبدعين إلى خانة صناعِ السلع الفاسدة، التى لا تبقى صانِعًا ولا تُستأمنُ على مستهلك ... خاصة فى زمن تحديات الوجود.


لمزيد من مقالات ◀ عبدالجليل الشرنوبى

رابط دائم: