منذ أربعة عقود كانت زيارتى إلى الجامعة المفتوحة فى ميلتون كينز جنوب لندن العاصمة البريطانية. حدثنى مضيفى عن الجامعة الفريدة التى لا يرتادها طالب واحد!! المكتب الرئيسى بها هو مكتب البريد، والأقسام الرئيسية هى أقسام الإعداد والتسجيل والتصوير والمونتاج. الجامعة مفتوحة لمن يرغب فى استكمال تعليمه ولكنه لا يملك الوقت أو الامكانيات التى تسمح له بالتفرغ للدراسة والالتحاق بالجامعة النظامية، روادها ربات البيوت أو الموظفون وكل من يرغب فى الاستزادة من العلم فهى تفتح أبوابها لتوصيل المعرفة للجميع، ومن هنا جاء اسمها. أزور قاعات التسجيل والتصوير حيث يتحدث المعلمون إلى آلات التسجيل الصوتية، ويقف الأساتذة أمام كاميرات التصوير الضوئية، ويعمل المخرجون على إعداد شرائط التسجيل التى تحوى أسس العلوم ومبادئها، وإنتاج أفلام الشرح العلمى التى توضح التجارب العلمية وفوائدها، وأذهب إلى مكتب البريد فأجد العمل يجرى على قدم وساق لإعداد الطرود التى تحوى الشرائط السمعية والأفلام المرئية التى يجب أن تصل إلى الدارسين فى الموعد المحدد.
سألت مضيفى، ولكن كيف يتاح للدارس أن يستوضح المزيد إذا أراد، أجاب بأن هناك معسكرا تعليميا يمتد ليومين (من أيام نهاية الأسبوع) يقام كل شهر لمن يرعب فى الحضور، فيجد الدارس الفرصة هناك لمقابلة المعلمين والزملاء فيستوضح ما وجده صعبا عليه أثناء الدراسة بمفرده. استفسرت عن الامتحان فأجاب نحن نرسل أوراق الأسئلة للطلبة ونتلقى منهم أوراق الإجابة بالبريد، ولا توجد مشكلة، فالأسئلة ليست مباشرة، بل على العكس هى تشجع الطالب على التحليل والتفكير والرجوع إلى الكتب والمراجع، فهى اختبارات مع «الكتاب المفتوح» إذا أردت أن تسميها كذلك. سألته، وهل الجامعة معترف بها أكاديميا بين الجامعات البريطانية، أجاب بحسم: نعم، فنحن حققنا معايير عالية للجودة، فالمحتوى تمت مراجعته، والطلاب يتم متابعتهم وتقييمهم باستمرار، والاختبارات تمت معايرتها. سألت مترددا وأنا أحاول صياغة السؤال واختيار الكلمات، وهل ينظر المجتمع إلى خريج الجامعة المفتوحة بجدية ويعتبره مكافئا لخريجى الجامعات النظامية، رد محدثى فى البداية لم يأخذ أحد جامعتنا على محمل الجد، ولكنك قد تتعجب إذا قلت لك ان خريج الجامعة المفتوحة يحظى الآن بمكانة مرموقة بين خريجى الجامعات البريطانية، بل إن بعض أصحاب الأعمال يفضلون خريج الجامعة المفتوحة للعمل عندهم، فهو لديه الحافز الذاتى الذى دفعه لكى يتعلم رغم ضيق الوقت والإمكانيات، كما أن معايير الجودة التى تبنتها الجامعة أعطتها مكانة واحتراما بين الجامعات الأخرى. سكت مضيفى برهة ثم استطرد، صدقنى، المستقبل هو للجامعات المفتوحة. تطورت الجامعة المفتوحة فى بريطانيا بعد ذلك، فاستخدمت التليفزيون صباح كل أحد ليبث دروسه للطلبة، وحين دخلت الشبكات العنكبوتية والإلكترونية على الخط، ساد استخدام التواصل الرقمى، وتطورت تقنيات التعليم عن بعد وبنيته التحتية وانتشر فى أرجاء الدنيا.
مضت سنوات طوال حتى صرت عميدا لكلية الدراسات العليا فى جامعة الخليج العربى بالبحرين فى مطلع الألفية، كثر الحديث عن التعليم عن بعد، فاقترحت على الجامعة برنامجا للدراسات العليا فى التعليم والتدريب عن بعد حيث تم التعاون مع جامعة سندرلاند البريطانية لإنشاء البرنامج بدعم من الدكتور محمد لطفى الذى كان يعمل أستاذا بها، تناول البرنامج الجوانب النفسية التى يجب مراعاتها فى التعليم عن بعد وكيف يختلف عن التعليم وجها لوجه، وتناول المنصات الإلكترونية والتعريف بأشكالها وأنواعها المختلفة، ثم بين محددات كتابة المنهج للدارس عن بعد، فهو يختلف عن الكتابة للطالب الذى يرى المعلم ويستطيع أن يسأله، ثم تناول البرنامج كيفية وضع المحتوى العلمى و تحميله على الشبكة العنكبوتية وكيفية شرح الدرس وإدارته والأدوات والبرامج المستخدمة فى ذلك، وفى النهاية كيفية اختبار الطلبة وإجراء عمليات التقييم المستمر. وحتى يحصل الدارس على درجة الماجستير فى التدريب والتعليم عن بعد» كان عليه أن يقوم بإعداد ثلاث محاضرات بالطرق الإلكترونية وتبيان كيفية تطبيق كل الخطوات السابقة فى تنفيذ هذه المحاضرات وشرحها.
فى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة صدر كتابى عن مؤسسة الأهرام: كنتم عايشين إزاي؟، وهو كتاب يحكى تطور الاتصالات منذ فجر التاريخ حين استخدم الناس إشارات الضوء، والنيران، والدخان، والتلغراف، والتليفون، والتليفزيون، والتلكس، والفاكس، والإنترنت للتواصل، ولا ندرى ماذا يأتى بعد! وأشرت إلى أن الأجيال الجديدة لا تستوعب الحياة بدون وسائل التواصل الحديثة. وتخيلت أن وسائل الاتصال الحديثة ستحدث ثورة فى تقنيات التعليم، وسوف تقول الأجيال الجديدة هل تصدقون أن أجدادنا كانوا يذهبون للتفرغ للدراسة سنين طويلة بينما نحن ندرس هنا فى بيوتنا ونقوم بوظائف مختلفة!!وشهدت بعدها إحدى بنات العائلة تسأل أباها متعجبة كيف كنتم تحصلون على المعلومات، وكيف كنتم تتابعون الدروس فى زمن ما قبل الإنترنت؟ مضت الأيام وجاءت جائحة ضربت العالم، وقلبت موازين الدنيا رأسا على عقب، انتشر فيروس وبائى خلق أزمات كاشفة فى الصحة والاقتصاد والسياسة والتعليم وحياة الناس، وأصبح التباعد الاجتماعى مطلبا بل ضرورة وملجأ، وصار التعليم عن بعد فرض عين على الدارسين فى زمن الكورونا، لعل الأزمة تحولت إلى فرصة لتنشط منصات التعليم المفتوح وإن بدت مترددة ومتعثرة، ولكن سيتطور الأمر، وسيفهم المعلمون والمتعلمون السبل المثلى لتنفيذ التعليم عن بعد، وسيتم دعم البنية الأساسية وتطويرها، وستتحقق المقولة التى سمعتها منذ أربعين سنة، وسيقول المؤرخون أن الذى فتح الباب على مصراعيه للتعليم عن بعد هو التعليم فى زمن الكورونا!.
لمزيد من مقالات د.شريف قنديل رابط دائم: