هناك تجارب فى الحياة يتعلم منها الإنسان..وهناك دروس تتعلم منها الشعوب والأمم ولكن هناك أيضا تجارب ودروسا للبشر، كل البشر.. إنها أشياء تخص الجنس البشرى كله باختلاف ألوانه وأجناسه ولغاته وثقافاته.. ورغم أن الحروب جمعت بلاداً كثيرة وأوطاناً وشعوباً مختلفة فأنها لم تتجاوز حدود هذه البلدان.. رغم أن الحرب العالمية الثانية أبادت الملايين من البشر إلا أنها دارت فى نطاق دول شاركت فيها وبقيت شعوب أخرى بعيدة عن نيرانها.. من هنا فإن الأوبئة كانت من الأحداث التاريخية الشاملة التى لم ينجُ منها أحد وأخذت معها ملايين الضحايا وحين اجتاح الطاعون العالم قيل يومها إن البشرية خسرت ملايين البشر وهو ما حدث بعد ذلك مع الكوليرا وبقيت هذه الكوارث من العلامات البارزة فى تاريخ البشرية.
< إن العالم الآن يعيش محنة وباء جديد هو الكورونا وهو فيروس غامض لا أحد يعلم حتى الآن من أين جاء وما هى أسباب ظهوره وما هى نهاية هذه التجربة القاسية فى حياة البشرية، خاصة أننا مازلنا نعانى المحنة التى تهدد الجنس البشرى كله..
< لا أريد أن أتوقف عند حجم الخسائر البشرية التى وصلت حتى الآن إلى أكثر من 2.5 مليون مصاب بجانب أكثر من 170ألف حالة وفاة والكارثة لم تتوقف بعد ومازالت كل يوم تحصد آلاف الضحايا.. إن أخطر ما فى هذه الكارثة أنها اقتحمت كل شعوب العالم ولم تترك بلدا، ربما اختلفت أرقام الضحايا ولكنها دخلت كل البلاد رغم إغلاق الحدود ووقف وسائل الاتصال وكل الإجراءات الصحية التى اتخذتها حكومات العالم لحماية شعوبها..
سوف أتوقف عند هذه الكارثة وماذا حدث فى مصر لمواجهة هذا الوباء الخطير الذى أصبح الآن يهدد حياة الملايين من البشر..
< لا شك أن الكورونا كانت مفاجأة للمصريين الشعب والحكومة وسلطة القرار وأنها كانت شيئاً لم يتوقعه أحد ليس فى مصر وحدها ولكن على مستوى العالم.. إن الشيء المؤكد أن مصر الدولة قد تعاملت مع الكارثة بقدر كبير من الحسم والجدية وقد شمل ذلك عدة برامج شاركت فيها كل مؤسسات الدولة.. كان دور قواتنا المسلحة واضحاً وحاسماً وهى تؤدى دورها فى مقاومة الوباء من خلال تطهير الشوارع والمدن والمؤسسات والبيوت وكان واضحاً أن لدى جيش مصر إمكانات متقدمة من السيارات والمعدات والأجهزة الحديثة التى انتشرت فى كل ربوع مصر، تواجه الوباء بجسارة وتخطيط ووعى، وقد كان ذلك من أهم أسباب نجاح الدولة فى مواجهة الوباء وتقليل نسب الإصابات والوفاة..
< كان أداء كتائب الأطباء المصريين فى كل المواقع شيئاً مشرفاً يليق بتاريخ الطبيب المصرى صاحب الأمجاد العظيمة منذ عهد الفراعنة.. إن وقفة الأطباء فى هذه الكارثة صفحة مضيئة فى تاريخ مصر كلها، لقد تدفقت حشودهم فى مواجهة حادة مع الوباء الخطير ولم يتردد أحد منهم فى أن يضحى بروحه من أجل إنقاذ وطن.. إن عشرات الشهداء من أطباء مصر الذين خاضوا معركة شرسة ضد الوباء لا تكفيهم مشاعر العرفان والحب ورد الجميل لقد أثبتوا بالدليل القاطع كفاءتهم وقدرتهم وحبهم لهذا الوطن العزيز.. ولن ننسى أبداً كتائب الممرضات والممرضين الذين وقفوا فى مقدمة الصفوف وقدموا نموذجاً فريداً فى العطاء والشهادة..
< كان أداء وزارة الصحة بكل مؤسساتها العلاجية والطبية والإنسانية على درجة كبيرة من الكفاءة سواء فى وضع البرامج أو مراقبة المستشفيات أو توفير المعدات وكان التنسيق بين القوات المسلحة ووزارة الصحة من أهم الأسباب التى جعلت الخسائر البشرية حتى الآن فى معدلات مناسبة إذا قيست بما حدث فى دول العالم.. كنا دائما نشكو من ضعف مستوى الخدمات الصحية ولكن تجربتنا مع الكورونا أثبتت أننا قادرون على تجاوز الأزمات حتى لو كانت كارثة ضخمة مثل وباء الكورونا..
< كان وجود الشرطة المصرية فى الشوارع والمؤسسات والمدن والقرى من أكبر الضمانات ليس الأمنية فقط ولكن الإحساس بالحماية من أهم الأسباب التى جعلت مؤسسات الدولة فى كل المجالات تؤدى دورها بكفاءة ابتداء بالبنوك والمستشفيات والجامعات والمرافق والخدمات.. كان وجود رجال الشرطة فى الشارع المصرى شيئا رائعاً..
< هناك انتقادات كثيرة وجهها الإعلام للمواطن المصرى رغم أن هذا المواطن ضرب مثلا فى درجة الوعى والانضباط.. ينبغى إلا ننسى أننا أمام تجربة فريدة تحدث للمرة الأولى فى العصر الحديث وأنها أدت إلى نتائج خطيرة فى توقف الأعمال والأنشطة والجلوس فى البيوت وإغلاق المدارس والجامعات، نحن أمام مجتمع اختلت فيه كل الموازين وتعرض لهزات عنيفة فى كل شىء.. وفى تقديرى أن الشارع المصرى نجح فى استيعاب الصدمة وتعامل معها بكامل وعيه ولا ينبغى أن ننسى أن المصريين عاشوا فترة صعبة والوباء يقتحم حياتهم فى فترة أعياد ما بين مناسبات دينية مختلفة، كما أن إلغاء طقوس دينية لم يكن أمراً سهلا ابتداء بالصلوات فى المساجد والكنائس وإلغاء التجمعات فى الأفراح والمناسبات حتى جنازات الموتى وكان موقف المصريين وانضباطهم يوم شم النسيم شيئا مبهراً.. إن كل هذه الظواهر التى توقف المصريون عنها تؤكد أن المواطن المصرى تعامل مع الأحداث بوعى ومسئولية فى تجربة لم تمر علينا من قبل يضاف لهذا أن بقاء الأسرة المصرية فى بيوتها كل هذا الوقت كان انجازاً كبيراً رغم بعض التجاوزات التى شهدتها بعض المدن والشواطئ والمناطق الريفية.. ولا ينبغى أن ننسى أن حالة الارتباك التى شهدها الشارع المصرى بكل فئاته لم تكن قضية سهلة أمام الإحساس بالمسئولية..
< لا أحد ينكر الإجراءات التى اتخذتها الحكومة تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسى مثل دعم العاملين الذين تركوا أعمالهم أو أصحاب المعاشات أو المبالغ المالية التى قررها الرئيس لمواجهة الأزمة وهى 100 مليار جنيه، كما أن الحسم فى اتخاذ القرارات كان من أهم الأسباب التى شعر معها المواطن بالأمان أمام ظروف طارئة.. أن وجود كبار المسئولين وعلى رأسهم رئيس الحكومة مصطفى مدبولى والوزراء فى كل المواقع وتوفير السلع الغذائية بما يكفى احتياجات المواطنين كل ذلك أدى إلى نجاح المواجهة مع هذا الخطر القاتل.. يبقى أمامى هذا السؤال.. وماذا بعد الكارثة؟. وإذا قدر الله وعبرنا منها بأقل قدر من الخسائر فى البشر والأموال ماذا تنتظر بعد ذلك؟. فى تقديرى أن هناك تحديات ثلاثة:
أولاَ: بكل المقاييس والحسابات لابد أن ندرك أننا أمام عالم جديد ما بعد الكورونا. إن كارثة الكورونا نفسها سوف تكون مجالا لصراعات بين كل القوى خاصة أن الاتهامات حول أسبابها لن تتوقف وهنا يمكن أن يبدأ الصراع بين أمريكا والصين، لأن أمريكا هى التى تحملت الثمن الأكبر فى الخسائر البشرية ولا أحد يعلم موقف الصين وهى الآن المتهم الأول فى الجريمة، كما أن أوروبا التى تعرضت لهذه الكارثة سوف تعيد النظر فى كل شىء ولا أحد يعلم هل تبقى على ولائها لأمريكا أم أن لغة المصالح قد تفرض واقعا جديدا.. إن الصين تحاول أن تهرب من المسئولية ولكن هناك شواهد كثيرة تضعها فى مناطق الحساب..
ثانيا: لا شك أن هناك قوى جديدة صاعدة وفى مقدمتها الصين وربما روسيا ولكن من يدفع الآن تكلفة الكورونا وهناك اقتصاديات دمرتها الكارثة مثل ايطاليا وفرنسا واسبانيا ومن يعوض هذه الدول وهنا سوف تكون هناك تساؤلات كثيرة حول الخسائر التى تعرضت لها الدول.. نحن أمام قضية التعويضات المالية والبشرية وأمام قضية الديون وفوائدها وأمام قضية البحث العلمى وأهدافه وما حدث فيه من انتكاسة أمام حالة العجز التى أصابت أهم المراكز البحثية المتقدمة أمام فيروس قاتل.. إن العالم المتقدم لابد أن يراجع نفسه وهو يطور الصناعات العسكرية وأسلحة الدمار الشامل وكل مجالات الإنتاج التى أهملت كل الجوانب الإنسانية فى حياة البشر.. إن السؤال هنا: أين سيكون موقع مصر أمام هذه الحسابات الجديدة؟ وما هى أولويات الوطن المصرى إنتاجا وبشرا وتقدما وعلما؟. إن الساحة بعد الكورونا سوف تخلو فيها مواقع كثيرة فأين موقع مصر فى كل هذه التغيرات؟..
ثالثا: هناك هزة عنيفة تعرض لها الاقتصاد العالمى ويكفى ما حدث من الأعباء المالية والاقتصادية التى فرضها الكورونا وما حدث فى البورصات العالمية من خسائر وما تعرضت له الشركات الكبرى من انهيارات مع التراجع الكبير فى أسعار البترول العالمية. إن العالم سوف ينتظر قوائم الخسائر بعد انتهاء كارثة الكورونا، لأن الحساب لم يأت بعد وهنا لابد أن يكون لمصر دور فى كل هذه النتائج هل يعاد النظر فى قضايا مثل سداد الديون وأقساطها وأصولها وماذا عن العمالة التى توقفت عن الإنتاج والملايين الذين يعملون فى الدول العربية ويمثلون واحدا من أهم موارد مصر من العملات الصعبة، كما أن الدولة لابد أن تعيد النظر فى عدد من الأولويات وفى مقدمتها الرعاية الصحية والبطالة والتكافل الاجتماعى والعدالة بين أبناء الوطن الواحد خاصة إننا اكتشفنا مع كارثة الكورونا ان الجميع فى سفينة واحدة وأننا حين جلسنا فى البيوت لم يكن هناك فرق بين من لا يملكون شيئا ومن ملكوا كل شىء.
تبقى كلمة أخيرة أن الإنسان هو القيمة الحقيقية فى هذا العالم وحين فرطنا فى صحته وحقوقه ورفاهيته اكتشفنا انه لا شىء أغلى منه.
ويبقى الشعر
وجْهٌ جَمِيلٌ..
طافَ فِى عَيْنى قليلا.. واسْتـَدارْ
فأراهُ كالعُشْبِ المسَافِر..
فِى جَبين ِ الأرْض يَزْهُو فِى اخْضِرَارْ
وتـَمرُّ أقـْدَامُ السنِين عَليهِ.. يَخـْبُو..
ثـُمَّ يسْقـُط فِى اصْفرَارْ
كمْ عِشْتُ أجْرى خـَلـْفـَهُ
رَغمَ العَواصِف..والشَّواطِئ..والقِفـَارْ
هَلْ آنَ للحُلـْم المسَافِر أنْ يَكـُفَّ عَن ِالدَّوَارْ؟
يَا سِنـْدباد العَصْر.. ارجعْ
لمْ يَعُدْ فِى الحُبِّ شَىْءٌ غَيْرُ هَذا الانـْتـحَارْ
ارْجعَ.. فـَإنَّ الأرْض شَاخَتْ
والسّنونَ الخُضْرَ يَأكـُلـُهـا البَوَارْ
ارْجعْ.. فإنَّ شَوَاطئَ الأحْلام ِ
أضْنـَاهَا صُرَاخُ المَوْج مِنْ عَفـَن ِ البـِحَارْ
هَلْ آنَ للقـَلـْبِ الذى عَشقَ الرَّحِيلَ
بأنْ يَنـَامَ دَقيقة.. مِثـْلَ الصِغـَارْ ؟
هلْ آنَ للوجْهِ الـَّذِى صَلـَبُوه فوقَ قِناعِهِ عُمْرًا
بأنْ يُلـْقِى الِقنـَاعَ الـُمسْتـَعَارْ؟
وَجْهُ جَمِيلٌ
طافَ فِى عَيْنى قليلا.. واسْتـَدَارْ
كانَ الوداعُ يُطلُّ مِنْ رَأسِى
وفِى العَيْنَين ِ سَاعَاتٌ تدُقُّ..
وألفُ صَوْتٍ للقِطـَارْ
وَيْلى مِنَ الوجْه البَرىء..
يغـُوصُ فى قلـْبى فيُؤلمُنى القرارْ
لمَ لا أسَافرُ
بَعْدَ أنْ ضاقتْ بى الشُّطآنُ.. وابْتعَدَ المزارْ ؟!
يا أيُّها الوجه الذى أدْمَى فؤَادى
أىُّ شَىْءٍ فيكَ يُغْرينى بهَذا الانتظارْ ؟
مَا زالَ يُسْكرُنى شُعَاعُكَ..
رَغـْمَ أنَّ الضَّوْءَ فى عَينىَّ نارْ
أجْرى فألمَحُ ألـْفَ ظلٍّ فِى خُطاىَ
فكيْفَ أنجُو الآنَ مِنْ هَذا الحِصَارْ ؟
لِمَ لا أسَافِرُ ؟
ألفُ أرْض ٍتحْتـَوينِى.. ألـْفُ مُتـَّكإٍ.. ودَارْ
أنا لا أرَىَ شَيْئـًأ أمَامِى
غَيْرَ أشْلاءٍ تـُطاردُهَا العَواصِفُ.. والغـُبَارْ
كمْ ظلَّ يَخْدَعُنِى بَريقُ الصُّبح فِى عَيْنـَيْكِ..
كـُنـْتُ أبيعُ أيَّامِى ويَحمِلـُنى الدَّمَارُ.. إلى الدَّمَارْ
قـْلبى الذَّى عـَلـَّمتـُهُ يَومًا جُنونَ العِشْق ِ
عَلــَّمَنِى هُمُومَ الانـْكسَارْ
كانتْ هَزَائِمُهُ عَلى الأطـْلال ِ..
تـَحْكِى قِصَّة القـَلـْبِ الـَّذِى
عَشقَ الرَّحيلَ مَعَ النـَّهَارْ
ورَأيْتـُهُ نـَجْمًا طريدًا
فِى سَمَاءِ الكـَوْن ِ يَبْحَثُ عَنْ مَدارْ
يَا سِنـْدبَادَ العَصْر
عهْدُ الحُبِّ ولــّى..
لنْ تـَرَى فِى القـَفـْر لؤلـُؤة..
ولنْ تـَجـِدَ المحَارْ
وَجْهٌ جَمِيلٌ..
طافَ فِى عَيْنِى قليلا.. واسْتـَدَارْ
وَمَضَيْتُ أجْرى خـَلـْفـُه..
فوجَدْتُ وَجْهـِى.. فِى الجـِدَارْ
قصيدة النجم يبحث عن مدار1993
[email protected]لمزيد من مقالات يكتبها ــ فاروق جويدة رابط دائم: