لم أجد طوال حياتى وحتى الآن.. حدثًا هزُّ العالم مثلما هزه حدث الانتشار الوبائى لفيروس كورونا، بغض النظر عن كونه فيروسًا طبيعيًا أو مصنعًا، محليًا أو منقولاً من بلد لآخر، وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واستخدام أمريكا لقنبلتى هيروشيما وناجازاكى فى أغسطس 1945م التى أنهت الحرب وأوقفتها. ومنذ ذلك التاريخ حدثت وقائع، وأحداث، وحروب محلية، وأزمات، ونشر فيروسات أنفلونزا الطيور والخنازير والسارس، بل وصلت الأحداث إلى ذروتها بتفكك الاتحاد السوفيتى بنهاية عام 1991م، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالنظام العالمى لمدة عقدين (1991 2011م)، إلى أن انفجرت الثورات العربية بنهاية 2010م فى تونس، ثم 2011م فى مصر. إلا أنه بعد أن تفجرت الأزمة السورية، بدأ يبزغ من جديد، تلك الدولة العظمى (روسيا) التى غابت العقدين، لتظهر من جديد كحدث أعاد النظام الدولى إلى إتزانه وازدواجيته. ولاشك أن كل هذا الذى جري، لم يهز العالم كله فى وقت واحد، إلى أن جاءت الكورونا وأزمتها لتجبر العالم على الاهتمام الجماعى فى كل أنحاء العالم. ويجمع المراقبون على أن أزمة كورونا، نقطة تحول تاريخية كبري، بحيث أن ما بعدها سيكون على خلاف ما قبلها وفى كل المجالات، وعلى مختلف الأصعدة. وقد كشفت أزمة كورونا، عن الطابع اللا إنسانى للرأسمالية المتوحشة التى سادت الغرب الاستعماري، ومن يدور فى فلكه.
لقد وجدنا الساسة وقادة الرأسمالية ومفكرى الليبرالية الجديدة، يقودون خطابًا عديم الإنسانية، بإهمال الكبار، والاهتمام بالصغار، ليظل المجتمع الغربى منتجًا، على حساب القيم الإنسانية. ولقد أصبح هؤلاء القادة مذنبين فى حق البشرية، وقاتلين عمدًا مع سبق الإصرار والترصد، ولقد كرسوا الازدواجية والتمييز العنصري. ومن هذه اللحظة على الجميع ألا يصدقهم، أو يثق فى مقولاتهم النظرية التى اتسمت بالأنانية والغرور، والاستغلال العمدى للآخرين. فقد أقام هؤلاء الاستعماريون رفاهيتهم على حساب الشعوب المحتلة فى عالمنا الثالث، بحيث يظل هؤلاء متخلفين، بينما هم يعيشون فى رفاهية، إلى أن أتت كورونا!.
وفى ظل تداعيات الـكورونا، فقد تكشفت قضية مجتمعية شاملة، تتمثل فى حتمية العودة إلى أفكار العدالة الاجتماعية، وإعادة بناء المجتمع الإنسانى على أسس اشتراكية. ويتأسس هذا المجتمع على دعامات قوية من الحقوق الحتمية، التى لا تمثل منّا من أحد، سواء الدولة أو من أصحاب المشروعات الخاصة.
فقد أصبح حق الحياة وحق الصحة، وحق التعليم، وحق الثقافة والوعي، وحق الإعلام المستنير الموضوعى فى خدمة الشعوب، بالإضافة إلى الحقوق الطبيعية كحق الحرية فى كل شىء، وتأسيس النظام الديمقراطى الحقيقي، الذى يقوم على دعامات شعبية حقيقية، من الحقوق الحتمية لكل مواطن. فالعدالة الاجتماعية، هى فى مدى قدرة الدولة على الوفاء بتحقيق هذه الحقوق الحتمية وبالمجان، دون تمييز أو ازدواجية أو استعلاء لأحد على آخر. كما أن شرعية الدولة ووجودها أصلاً، والنظام الحاكم لها، ترتبط بمدى تحقيق هذه الحقوق بلا منازع، ليصبح المجتمع قويًا بالفعل. فقد أشار أستاذى د. رفعت المحجوب فى تدريس الاقتصاد السياسي، بأن الجنيه (كعملة وطنية)، يحقق مكاسب صافية لا تتجاوز 25%، من رأس المال، وإن حقق أكثر من ذلك، فإن وظيفة الدولة وضع التشريعات لأخذها واستعادتها للدولة وضمها للموازنة العامة، كآلية لتحقيق العدالة الاجتماعية التى تخلق الاستقرار الاجتماعي. فالعدالة الاجتماعية الحقيقية، هى التى تخلق استقرارًا اجتماعيًا حقيقيًا بلا منازع. ولذلك عندما يصبح أصحاب الثروات المالية، الذين اكتسبوا المليارات دون وجه حق، ولم تقتص منهم الدولة ذلك، وربما ساعدت فى خلق هذه الطبقة المليارية، أقوى من الدولة ونظامها الحاكم، ويستطيعون أن يفرضوا ما يشاءون، فإن الدولة وحكومتها، تفقد شرعيتها، ويسهم ذلك فى تآكل الشرعية السياسية التى تقوم على القبول الجماهيرى الواسع من عدمه.
لذلك فإن ما تمخضت عنه أزمة كورونا، هو أن العدالة الاجتماعية الحقيقية، هى صمام أمن واستقرار المجتمع، وما لم يتحقق ذلك فعليًا وعلى أرض الواقع، فإن الدولة والنظام عمومًا، سيفقد شرعيتهم وربما دخلنا فى مرحلة ما بعد الدولة.
لمزيد من مقالات د. جمال زهران رابط دائم: