رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

شاعر الجغرافيا

جرجس شكرى;

أصبح للشخصية المصرية الكلمة العليا في مطلع القرن العشرين بل و كانت الموضوع الأثير والمعقد الذي تناولته العديد من الأقلام من خلال عناوين مختلفة ، فكتب طه حسن مستقبل الثقافة فى مصر بعد توقيع معاهدة 1936 و سلامة موسي «مصر أصل الحضارة» وشفيق غربال «تكوين مصر»، وصبحى وحيدة «فى أصول المسألة المصرية»، وصبرى السوربونى «نشأة الروح القومية المصرية» وعناوين أخري بالإضافة إلى الكتاب الأهم فى هذه القضية وهو «شخصية مصر» لجمال حمدان.. في محاولة جادة ليس فقط لقراءة شخصية مصرعبر العصور بل لقراءة ودراسة اللحظة الراهنة وطرح أسئلة المستقبل نتيجة لعوامل عديدة عاشها المصريون في القرن التاسع عشر كان أهمهاالثورة العرابية التى رفعت شعار مصر للمصرين ثم جسدت ثورة 19 19 هذه الروح وبقوة في حياة المصرين ، فكانت شخصية مصر وهويتها الشغل الشاغل للمفكرين والأدباء لعقود طويلة .

وظنى أن العناوين السابقة جاءت تمهيداً للموسوعة التى وضعها جمال حمدان والتى كانت ومازالت بمثابة قصيدة في عشق هذه الأرض رغم قسوة مفرداتها أحيانا الذي قدم من خلالها بطاقة هوية لمصر والمصريين عبر العصور، دفتر أحوال الشخصية المصرية ، دراسة في ظاهرها تشريح شخصية المكان وفي باطنها تحليل عميق للإنسان المصري الذي عاش ألفي سنة من السيادة العالمية والاقليمة ، و بعدها ألفي سنة في ظل التبعية الاستعمارية والأجنبية ً ومع هذا ظل محتفظاً بهويته ومتفرداً في شخصيته ، ليتحول علم دراسة الأرض في هذه الموسوعة إلي نص شعري ، دون أن يفقد المنهج العلمي ويحتفظ بكل مقومات البحث هذا هو جمال حمدان في شخصية مصردراسة في عبقرية المكان ، ومازلت أذكر رغم مرور السنوات هذا الإنطباع وأنا أقرأ شخصية مصر ، فمنذ الوهلة الأولي يعلن أنه لايبحث في التباين الأرضي ولا الاختلافات الرئيسية ، فالأمر لا يتعلق فقط بالمرتفعات والمنخفضات والحدود ، لكن روح المكان ، روح الجغرافيا ، وللوصول إلي فلسفة المكان للتعرف علي شخصيته، ويفاجئ القارئ قائلاً دراسة الجغرافيا ليست حكراً علي الجغرافين بل المؤرخين أيضاً ، ثم يهمس في إذن قارئه : هل تعلم يا عزيزي لقد قالوا أن البيئة خرساء والإنسان لسانها ، وأقول لك الجغرافيا صماء والتاريخ لسانها ، لقد قالوا أن التاريخ ظل الإنسان علي الأرض وأقول الجغرافيا ظل الأرض علي الزمان،شعرت وقتذاك وكأنني أقرأ مقدمة عمل أدبي يؤكد أن الجغرافيا علم وفن وفلسفة وشخصية الإقليم مثل شخصية الإنسان تنمو وتتطور وتتغير ، وكان جمال حمدان علي وشك أن يخبر القارئ أنه بداخل كل جغرافي جيد شاعر مستتر يقوده إلي علم دراسة الأرض، وبالطبع الأمر لا يتوقف عند شعرية الفكرة أو التناول ولكن الضرورة، ضرورة دراسة شخصية مصر من خلال مستويات متعددة جغرافية وسياسية وتاريخية في تلك الفترة . فقد صدرت الدراسة في صياغتها الأولي عام 1967 ولا يخلو التاريخمن دلالة ، واكتملت في أربع مجدلدات مابين أعوام 1980 ، 1984 ، و كان صاحبها يعي جيداً المنعطف التاريخي الذي تمر به مصر وخاصة في ستينات القرن الماضى، فثمة انقلاب تاريخي في مكان مصر ومكانتها في تلك اللحظة التى يسميها جمال حمدان عصر البترول العربي الخرافي ، وكان صريحاً لدرجة القسوة ، هذه القسوة التى سوف تستمر حتي نهاية السطور الأخيرة في الموسوعة التى ناقشها فيها قضايا شائكة مثل مركزية العاصمة ومشكلة الديمقراطية ، وعلاقة مصر بالعرب ، وقضية الزعامة ، والضرورة الحتمية تحرير فلسطين من العدو الاسرائيلي كشرط لتسترد الشخصية المصرية عافيتها . كان جمال حمدان يري أن المرحلة لا تحتمل الاستخفاف أو الاستهتار ولابد من مراجعة للنفس ، مراجعة آمنة وصريحة بلا زهو أو خيلاء ، وبلا تهرب أو استجداء ، ليقول للقارئ أن هذه الدراسة تأتي في وقت تحتاج فيه مصر إلي إعادة النظر في كيانها ووجودها ومصيرها بأسره وذلك بالعلم وحده لا بالإعلام الأعمي الذي كان سائداً في تلك الفترة !

ليحذر في فترة مبكرة من خطر المغالاة في ترجيح القومية والإسراف الكاسح في تغليبها علي الوطنية ، منذ مايزيد عن نصف قرن ، حذر من المبالغة المتشنجة في تسويد القومية وتغليبها علي الوطنية إلي حد محوها وتأكلها ، وظنى أنه لم يكن يصدق أن هذا سوف يحدث في العقود التالية وبقوة وأنه سوف يتم تأثيم الحضارة الفرعونية لصالح الجهل والأفكار الغيبية ، ومن ناحية أخري حذر من الإعتماد علي التاريخ وأمجاده والاسراف في تعاطي الماضي، فالأمر لا يتعلق فقط بالجيولوجيا والجغرافيا المصرية في الجزء الخاص بشخصية مصر الطبيعية ،أو بملامح التجانس الطبيعي والمادي والبشري والحضاري للشخصية المصرية أو دراسة الجوانب الاقتصادية في هذه الشخصية التى اعتمدت علي الزراعة منذ فجرالتاريخ ، أو شخصية مصر الحضارية منذ الفراعنة وحتى ثمانينات القرن الماضي ولكنه يقدم من خلال هذه الموسوعة قراءة شاملة وقاسية للحظة الراهنة في تلك الفترة ليس فقط في شخصية مصر» دارسة في عبقرية المكان « ولكن للشخصية المصرية ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

فإذا كانت مصر تجمع بين الأضداد والمتناقضات، ويصفها أيضاً بأنها سيدة الحلول الوسطى وأنها فلتة جغرافية لا تتكرر في أي ركن من أركان العالم ليكون الناتج في المحصلة النهائية أن مصر نصف أوربية ، ثلث أسيوية ، سدس أفريقية وفي داخلها تبدأ أوربا عند الإسكندرية وآسيا عند القاهرة وأفريقيا عند أسوان ، فشخصية مصر هي التفرد وشعبها شعب خاص جعلهم تاريخهم وجغرافيتهم يختلفون عن سكان أي أمة من الأمم لكنه رغم هذا الوصف البديع الأقرب إلي نص شعري يعرض لأمراض الشخصية المصرية منذ الفراعنة ممثلة في الديكتاتورية ، ويصفها بأنها النقطة السوداء في شخصية مصر ،ويري أن مصر في سنة 1984 ميلادية لا تختلف عن 1984 قبل الميلاد والفرعونية المحدثة لا تختلف عن الفرعونية العتيقة ، بل نظام الحكم ! ويقول أنه لا السكان، لا الفقر ولا حتى الاستعمار في الماضي أو إسرائيل أو البترول العربي في الحاضر، إنما مشكلة المشاكل وقضية القضايا هي قضية الديمقراطية و نظام الحكم المطلق. فعبقرية المكان التى وصفها جمال حمدان في مئات الصفحات ليس مديحاً خالصاً ، فالخطة العلوية العظمى التى رتبها الجغرافي الأعظم لتجعل من مصر قطباً جغرافياً أعظم في العالم القديم لم تمنعه من تجسيد أمراض المجتمع المصري عبر العصور ، فإذا كانت هذه الدراسة أقرب إلي نص شعري فهو يجمع بين المديح والهجاء في آن ، هجاء أمراض المجتمع المصري ! وظنى أنه لا يكفي الاعجاب بهذه الموسوعة وصاحبها بل لابد من قراءة النتائج التى توصل إليها جمال حمدان ، ومن المخاطر التى حذر منها .. وأيضاً أن يتم تدريس جزء منها في المدارس حتى تعرف الأجيال الجديدة من هي مصر ، وكيف كانت ، وكيف أصبحت .

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق