لم يعد هناك صوت يعلو على صوت الكورونا، وللحق فإنها جعلت من صوتها الأعلي، وهى تطاردنا كل لحظة بتلك المتوالية من الإصابات الجديدة بالمرض، وتلك الوفيات التى جرت، وهؤلاء الذين عافاهم الله. الإحصائيات تشمل 205 كيانات سياسية بعد أن أصبحت كلمة «الدولة» لا تنطبق على أراض لها أوضاع سياسية خاصة؛ المهم أن يكون لها علم، وبها مثل بقية الدنيا إحصائيات الوباء. ولكن القضية لم تعد البلاء وملحقاته من البحث عن اللقاح ودواء العلاج، وما يحفه من تفاؤل أو تشاؤم، وإنما ما يدور حوله من جهود طبية واجتماعية وفنية وبحوث تاريخية تبدأ من ساعة الطاعون الأسود إلى الإيبولا حتى الوقت الحالي. الفنون هى الأخرى من السينما الى الأغانى باتت تدور حول المأساة الإنسانية، أو حتى الترفيه عن المآسى عندما طرح مغنيان أغنية فكك يا كورونا على موسيقى أغنية ذاعت مؤخرا عن بنت الجيران. الفكاك من هذا الحصار ليس سهلا لأنه لا أحد يعلم متى تنتهى، ورسوم المنحنيات تضع شروطا مستحيلة حتى يستقيم الأمر ومعه أمور أخري. باختصار هناك غياب لليقين حول مستقبل الجائحة، وما معها من جوائح أخرى اقتصادية واجتماعية، فضلا عن السلامة الشخصية. الأمر كله أشبه بالكابوس الذى تتمنى أن تستيقظ منه، ولكن الرعب يعتريك عندما تكتشف أنك كامل اليقظة، وأن ما يحدث ليس مشاهد بعيدة عن الواقع، وربما كان الفيروس أقرب لك من حبل الوريد مهما تمارس العزلة والاحتراز وأساليبهما التى تجمعها من كل القنوات العالمية، والصحف اليومية. ولكن العالم حولنا لم يكن ساكنا عندما استولى الفيروس على مقدمة الصورة؛ فقد شهد العالم أزمة نفطية كبيرة خلال الشهور الماضية وانتهت قبل يوم من كتابة هذا المقال. ما جرى أن السنوات القليلة الماضية شهدت مولد ما سمى «أوبك +» وهذه الزائدة هى روسيا ولكنها ظلت فقط على تعبير «بلس» لأنه لا أحد يعرف إذا ما كانت هناك دول أخرى تريد الانضمام إلى هذا التشكيل. منظمة «أوبك» كما نعرف مثلت تكتلا من الدول المنتجة للنفط فى مطلع السبعينيات من القرن الماضى من أجل تحقيق العدالة فى الأسعار للمنتجين. المنظمة أصبحت قوة فى عالم الطاقة العالمية، وعلى كتفيها وقع عبء المحافظة على الاقتصاد الدولى لأنها تزيد الإنتاج لتلبية القدر اللازم من النمو؛ وعندما يحدث الانكماش فإنها تقلص الإنتاج حتى تحافظ على أسعار معقولة للدول المنتجة خاصة إذا كان النفط هو موردها الوحيد. هكذا سارت الأمور لفترة طويلة حتى دخلت روسيا إلى السوق الدولية، وكان النفط بالنسبة لها أيضا هو المورد الرئيسي. وأكثر من ذلك مؤخرا فإن الولايات المتحدة عادت مرة أخرى إلى مقدمة المنتجين بإنتاجها خاصة من البترول الصخري. أصبح مجمع نفط الأوبك، وروسيا، وأمريكا موفرا لعرض زائد، ومع إصابة الصين بالفيروس قل الطلب من أكبر المستوردين، وعندما أصاب الفيروس العالم انهار الطلب، ولم يكن هناك حل إلا أن تفعل «أوبك +» ما تفعله دائما وهو تخفيض الإنتاج، ولكن روسيا رفضت على غير العادة، ومن ثم أخذت الأسعار فى التراجع. المملكة العربية السعودية أكبر منتجى الأوبك وصاحبة الطاقة الإنتاجية الكبيرة قبلت التحدى الروسي، وغمرت الأسواق بحوالى 275 مليون برميل إضافى يوميا، روسيا حاولت المجاراة فطرحت 330 ألف برميل فقط، وصل سعر البرميل فى المتوسط إلي20 دولارا. من قام بحل الأزمة كان الولايات المتحدة التى عندما يهبط السعر إلى هذا الحد فإن منتجى البترول الصخرى يخرجون من السوق الذى يتكلف برميله 30 دولارا. لا تتعجب إذا ما ارتفع السعر قريبا إلى 30 دولارا، وربما أكثر قليلا. هذا بالطبع حتى تنتهى أزمة الكورونا وبعدها سوف يكون هناك حديث آخر.
أزمة النفط جرت وانتهت بينما أزمة الكورونا لاتزال جارية، وكذلك حدثت أزمة سياسية فى الجوار الإسرائيلى بينما الدولة الإسرائيلية هى الأخرى تعيش «كوفيد ـ 19» كما ذاع عن اسم الأزمة الكبري. بدأت الأزمة فى إسرائيل بأن الجولة الثالثة من الانتخابات الإسرائيلية أدت تقريبا إلى نفس النتيجة التى جرت مرتين فى انتخابات أبريل وسبتمبر من العام الماضي. لم يعد أحد قادرا من الكتلتين الرئيسيتين ــ اليكود بقيادة نيتانياهو، وحزب أبيض وأزرق بقيادة بينى جانتس - على تشكيل حكومة تحصل على ثقة 61 عضوا فى الكنيست. النتيجة على هذا الشكل مثلت فشلا ذريعا للنخبة السياسية الإسرائيلية، خاصة أن الفائز الأول من حالة الشلل هذه كان حزب القائمة العربية الذى حصل على 15 مقعدا لأول مرة فى التاريخ، وشكل طريقا جديدا وواعدا للأقلية العربية فى إسرائيل والتى تشكل 21% من سكان إسرائيل. جرى حل الأزمة جزئيا باتفاق بينى نيتانياهو وجانتس على أن يصبح الأخير رئيسا للكنيسيت، وأن يقتسما فترة رئاسة الوزراء كما حدث من قبل بين شامير وشيمون بيريز فى الثمانينيات من القرن الماضي. نيتانياهو سوف يكون رئيس الوزراء للفترة الزمنية الأولى 18 شهرا. الذائع فى إسرائيل الآن أن يكون العرب مع من بقى من أحزاب اليسار ــ العمل وميرتز- كتلة سياسية مشتركة.
نتائج هذا التحول لها قصة أخري، ولكن ما هو خارج الكورونا يجرى فى الولايات المتحدة، فحتى مجىء الأزمة الكبرى كان السائد هو أن الرئيس دونالد ترامب سوف يكون رئيسا لأربع سنوات أخري. لم يكن الرجل يحتاج مجهودا كبيرا ليفوز، خاصة أن الحزب الديمقراطى جنح فى أثناء انتخاباته التمهيدية إلى اليسار (بيرنى ساندورز وإليزابيث وارين) الذى أفكاره ثقيلة على معدة المصوتين. ما حدث أن حصاد ترامب من الكورونا كان فشلا كبيرا فى الإعداد لها وإدارتها ومواجهتها، وأكثر من ذلك فى نظرته لها فى البداية، وكيف أن تعامله مع الأعداء ثم الحلفاء فى أثناء الأزمة كان مخجلا. على الجانب الآخر وقبل أن تتوقف انتخابات الديمقراطيين التمهيدية بات مرشحهم جو بايدن الذى أخذ فى التفوق على ترامب فى استطلاعات الرأى العام.. لم يكن العالم ساكنا بينما يستعر «كوفيد ـ 19» .
لمزيد من مقالات د. عبدالمنعم سعيد رابط دائم: